حسون معزياً في قرية المقرمدة
من المقرمدة، القرية الصغيرة جداً والنائية في جبال الساحل السوري، ظهر المفتي أحمد حسون، ليقدّم واجب العزاء بضابطٍ من أبناء هذه القرية قتل في معارك حلب. وفي قاعةٍ فقيرةٍ ألقى حسون كلمةً، كما اعتاد أن يفعل آلاف المرات، فاستدلّ على مناقب أهل الجبل بقصةٍ حدثت معه عن فطورٍ قديمٍ تناوله ذات مرةٍ في قريةٍ جبليةٍ أخرى، رفضت بائعة خبز التنور فيها أن تأخذ زيادةً فوق أجرتها، ليخلص إلى أن عجوزاً كريمة مثل هذه لا بدّ وأن تكون قد أرسلت أولادها اليوم للقتال في صفوف الجيش. وينتقل بعد ذلك، وبدون تسلسلٍ منطقيّ، إلى فرادة شخصية حافظ الأسد، ورفضه التنازل في مفاوضات السلام مع إسرائيل. ثم يفوّض حسون، بدليلي الإفطار الجبليّ وفرادة الأسد الأب، العائلة الحاكمة بمزيد من سنوات الحكم، فـ"من يمسك القمم (قمم جبال العلويين) يحافظ على القيم"، وفق الحكمة الحسونية التي أعلنها في العزاء، موهماً مستمعيه الجبليين أنهم شركاء في الحكم.
وقد أبهر إنشاء القمم والتنور والمفاوضـــــــات حضور كـــلمة حــــــسون في المقرمدة، ومنهم أمين فرع البعث في طرطوس، وأمين الفرقة الحزبية في القرية، والمدرّس المتقاعد محسن عباس حرفوش، الذي تحدّث باسم آل الفقيد، وأكد في كلمة ترحيبه بالمفتي أنه من المصغين إليه دائماً. وأثر حسون كذلك بباقي الجمهور المؤلف من كبار سنٍّ متقاعدين بقوا وحدهم في الضيعة، بعد أن ذهب أبناؤهم للقتال في جيش بشار في جبهةٍ ما من جبهات حربه. في نظرات هؤلاء الآباء قلقٌ بعض الشيء؛ فالمستقبل، ورغم إيمان المفتي بالنصر، ما يزال غامضاً ومحفوفاً بالمخاطر. ولن تمنحهم ألاعيب كلام حسون يقيناً يريدونه بأن يكون قتيل اليوم هو آخر القتلى من آل حرفوش.
في المساء، لا يجد رجال الـــــقرية موضوع حديثٍ سوى المفتي. سيقول الناطق باســـــم العائلة إن حــــسون عالمٌ وطنيٌّ كبير، ويقول أمين الفرقة الحزبية إن حسون بعثيٌّ منذ نصف قرن، ويتذكر رجلٌ ثالثٌ أن المفتي يشـــــعر بآلام الآباء المنكوبين لأنه فقد ولداً هو الآخر. ويعدّد الناطق أسماء من قــــتلوا من العائـــلة، ثم يحاول أن يحســـــب نسبة "الشــــهداء" بتقسيم عددهم على ستمائة، عدد سكان القرية وعدد أفراد العائلة، بمن فيهم من يقيم في دمشق وطرطوس واللاذقية. في الماضي كان المدرّس المتقاعد محباً للحديث لوسائل الاعلام المحلية، وخـــير من يســــتعرض تاريخ القرية ومزايا طبيعتها الجميلة وإقبال أهلها على التعليم. لكنه اليوم في واردٍ آخر، ولا يجد من المهتمين بهذا التاريخ أحد.
قبل مئتي عامٍ جاء رجلٌ يسمّى سلمان حرفوش من أنحاء بانياس إلى هذا البقعة الموحشة وأسّس قرية وعائلة، فحرث الأرض الوعرة وتزوج وأنجب اثني عشر ولداً. لم يكن في قلبه، في أغلب الظن، سوى أمنية السلامة، وبعد موته أمنياتٌ لسلالته بالبقاء. ولم يدر في خلده وقتها أن أحداً ما سيوقع هذه السلالة في الخديعة، ويختطفها إلى طريقٍ واحد، أن تفنى في سبيله وسبيله فقط.