«أحجار الضريح تؤلمنا» (من تعليقٍ لأحد المريدين على قيام فصائل إسلاميةٍ وسواها بهدم ضريح الشيخ محمد النبهان بحلب، ونقل رفاته إلى مقبرةٍ عامةٍ، ليلة الجمعة 16/1/2015).
تقوم مدرسة الكلتاوية (نسبةً إلى منشئها الأمير طقتمر الكلتاوي، المتوفى سنة 787 هـ) على هضبةٍ تطلّ على باب الحديد، أحد أبواب المدينة القديمة، من داخل السور. وقد عدا عليها الزمن حتى صارت، وقت أن أوى إليها الشيخ محمد النبهان (1900 – 1974) بقصد الخلوة والمجاهدة الصوفية، مسجداً طينياً بسيطاً لا يتسع إلا لعددٍ قليلٍ من المصلّين. وبالتعاون مع مريديه المتكاثرين، جدّد النبهان بناء المدرسة ووسّعها، وأعاد افتتاحها سنة 1964، تحت اسم (دار نهضة العلوم الشرعية).
تميّزت المدرسة بنظامها الصارم في التدريس والسلوك. يقيم الطالب فيها ليل نهارٍ، ويغادرها لزيارة أسرته في عطلةٍ محدّدة. وعليه أن يلتزم بلباسها المشيخيّ التقليدي، المؤلف من الجبّة والعمامة، داخل المدرسة وخارجها. بينما تتكفل المدرسة بكلّ ما يحتاجه من مصاريف معيشة، بالاستناد إلى جمعيةٍ خيريةٍ أسّسها النبهان، الذي لم يفتقر يوماً إلى التجار والميسورين من بين مريديه، قبل تأميم نظام حافظ الأسد للجمعية عام 1984.
تستقبل المدرسة الطلاب الحائزين على الشهادة الابتدائية، وتدرّسهم لستّ سنواتٍ منهاجاً شرعياً منضبطاً حرفياً بالتقليدية السنّية، مع ملامح صوفيةٍ واضحةٍ في التربية وفي يوميات المدرسة الداخلية، بالإضافة إلى نزرٍ يسيرٍ من «العلوم الكونية»، كالجغرافيا والرياضيات واللغة الإنكليزية. ونتيجة عدم التزامها بالمنهاج الرسميّ المعتمد للمدارس الشرعية، ورغبة نظام البعث في التضييق على هذا النوع من التعليم؛ لم تحز المدرسة الاعتراف الرسميّ بشهادتها. ولكنها تدبّرت أمر إتمام من يرغب من خريجيها دراسته في الأزهر.
ويقول مؤرّخو النبهان ومدرسته إنه رغب -منذ إنشائها- في تقديم أبناء الريف، وهو من هجر والدُه قرية «الصفّة» شرق حلب، وسكن حيّ باب النيرب الناشئ وقتها عن نزوح عشائر إلى أطراف المدينة. وكان دافع الشيخ هو «حاجة الريف الماسّة للعلماء والدعاة». وصار ذلك طابعاً ثابتاً للمدرسة حتى إغلاق أبوابها قسراً أثناء الثورة، بسبب القصف وخطورة الاستمرار على حياة الطلاب والمدرّسين.
وإذا كانت الكلتاوية قد تقاسمت ساحة التعليم الشرعيّ المنظّم في حلب مع مدرستين هما الخسروفية (الثانوية الشرعية الرسمية) والشعبانية (لا تحظى بالاعتراف الحكوميّ أيضاً)؛ فإن فوارق اجتماعيةً واقتصاديةً ومناطقيةً وسلوكيةً وسمت طلاب كلٍّ من هذه المدارس. فقد كانت الخسروفية مقصد الحلبيين على العموم، نتيجة عراقتها النسبية وتخريجها لأكثر شيوخ حلب شهرةً في القرن العشرين. ولم يكن السلك الدينيّ مصير أو هدف قسمٍ يزداد باطّرادٍ من طلابها، بقدر ما كان تحصيل قدرٍ من العلوم الشرعية والعودة إلى العمل في تجارة العائلة، أو متابعة الدراسة في كلية الشريعة والتحوّل إلى «أفندية» ببدلاتٍ حديثة، وربما متابعة الدراسة للحصول على الدكتوراه وضمان «الدين والدنيا».
أما طلاّب الشعبانية فكانوا خليطاً من أبناء المدينة والمقيمين في أطرافها من عائلاتٍ ريفيةٍ متوطنة. وتميّز خريجوها بشيءٍ من اللطف والانفتاح على المجتمع، لا سيما أنهم لم يكونوا ملزمين باللباس الشرعيّ «الثقيل»، ولا بالإقامة الدائمة والمغلقة، أثناء دراستهم.
بينما قدم معظم طلاب الكلتاوية من الريف مباشرةً، وعادوا إليه أحياناً كثيرة. وتعرّضوا لقولبةٍ صارمةٍ، وهم في العمر بين 12 و18 سنة، قامت على الشدّة ومفاهيم قيادة الناس والاستعلاء عليهم. ونتيجة هذه الأسباب مجتمعة، وطيلة ما يقرب من أربعين عاماً من عمل المدرسة، فقد خرّجت القسم الأكبر من المشايخ في الريف والمدينة، من خطباء وأئمةٍ ومدرّسين دينيين عاليي الصوت متصدّرين على مقعد الوجاهة الاجتماعية للشيخ.
وإذا كان هؤلاء، بما يتمتع به كلٌّ منهم من ثقلٍ محليٍّ، ولا سيما في الريف الشرقيّ المشتعل ثورةً، وفي سواه من الأرياف الثائرة هي الأخرى، وفي الأحياء المحرّرة من المدينة نفسها، لم يستطيعوا فعل شيءٍ أمام هدم مقدّسهم المباشر؛ قبر «سيدنا» الذي يعتقدون بولايته ويتبرّكون بزيارته، فلا بدّ أننا نشهد ذروةً من ذرى التحوّل المباغت للإسلام السنّيّ السوريّ إلى السلفية، خاصّةً وأنّ جميع من تحدّثوا في الفيديو الذي بثته الفصائل المشاركة تكلموا بلهجةٍ سورية، وأن هذه الفصائل لم تكن جبهة النصرة وجبهة أنصار الدين فقط، بل أيضاً الجبهة الشامية، وهي أكبر تجمّعٍ للـــــمقاتلين المــــحليين ومن الــجيش الحرّ، والمحكمة الشرعية بحلب وريفها.