من خيمة التـأييد بحي الجورة بدير الزور
يوم الانتخابات، وفي الجزء المحتلّ من مدينة دير الزور، ذهب سعيدٌ ليصوّت لبشار الأسد، وبملء إرادته.
حتى لو كان العمل قبيحاً، مثل انتخاب الأسد، فإن سعيداً (خريج الاقتصاد، وابن الـ25 عاماً) يعرف كيف يدافع عن نفسه. بل ويستنكر سؤالي عن السبب: "لساكم تشكون بمنو الصح؟... لسا ما اقتنعتم أنه الدكتور بشار، ورغم كلشي، هو الضمانة لحياة هالناس ومستقبل هالبلد؟". جاءت كلمة الدكتور غريبة بالنسبة إليّ، ففيها طابعٌ شبه رسميٍّ أراد صديقي – السابق - أن يضفيه على حديثه، وفيها أيضاً إلزامٌ لي بالتأدّب وعدم تجاوز الحدود. أحسست بالإهانة دون مبرّر، فليس في كلامه إساءةٌ شخصية، وبيننا عشرة حارةٍ ومدرسةٍ وجامعة. وبيننا أيضاً وحدة حال، نحن النازحين مع أهليهما من حي الحميدية المحرّر إلى القصور المحتلة. "والثورة فشلت من أول يوم شارك بيها الحرامي والسرسري والحشاش، وفشلت من أول ساعة انرفع بيها سلاح"؛ إضافةٌ تحليليةٌ من سعيد، انتظر مني تعليقاً عليها وهو ينظر إليّ معتزاً بأنه ينطق بكلامٍ هام. لقد أصبح للولد الذي يخبر أمه بكلّ شيءٍ رأي بالثورة هو الآخر، وأصبح لديه موقف. سألته بخبثٍ، غير مبالٍ بما قال: "مو أجبروا كل الموظفات والموظفين ينتخبون؟" أجابني منفعلاً: "مو صحيح هالحكي... إمي وخالاتي انتخبوا بدون ما حدا يقل لهم. ولو بي صناديق بالريف كان كل الناس انتخبت". كان شيئاً لطيفاً أن أتخيل وفداً عائلياً مؤلفاً من شقيقاتٍ أربعينياتٍ يذهبن برفقة أبنائهن إلى مدرسةٍ أو دائرةٍ حكومية. ولطيفٌ أيضاً أن أفسّر فعل سعيدٍ بمجرد أوامر أمه القوية له. هكذا وهي توقظه من النوم: "يلا قوم تا تنزل معانا تنتخب قبل ما تصير زحمة بالمراكز". يفرك الشاب عينيه ثم ينهض منصاعاً لأوامر الأم، وكذلك يفعل أبناء خالاته.
جمهورٌ إضافـيٌّ لبشار
بحياد، يمكن القول إن نسبة من صوّتوا لبشار بملء إرادتهم في حيّي الجورة والقصور قليلةٌ إذا ما قورنت بنسبة المجبرين على التصويت، وإذا استثنينا الشبيحة والمخبرين. ورغم القلة تحمل تلك النسبة دلالاتٍ هامة؛ فهؤلاء المتطوّعون للمشاركة بالانتخاب حسموا أمرهم أخيراً بعد سنوات ثلاثة من التردد، واختاروا الوقوف في صفّ النظام الذي يبدو عامراً حين تعقد الدبكة ويطلق مكبّر الصوت أغنية تثني على بشار. ويؤلف هؤلاء المتطوعون بموقفهم هذا جمهوراً مؤيداً ولم يرتكب جريمةً بأيّ معنىّ من المعاني القانونية للجريمة. جمهورٌ اعتزّ به بشار وهو يشاهده بأمّ عينيه هاتفاً حباً وحياةً له خلال زياراته إلى المحافظات قبل الثورة، لكنه خسره في جملة ما خسر بفعل سلوكه الوحشيّ تجاه الثورة. وحشية جعلت أشد الناس أنانية وحرصاً على ثمار الحياة المستقرّة يشعرون بالحرج. وبالطبع، لا ينفع سعيد وخالاته الثورةَ في شيءٍ إن مالوا إليها، لكنهم ينفعون النظام إن أيدوه. فهم الناس الذين يحتاج إليهم النظام من خارج بيئته، ليقول لهذه البيئة أولاً إنهم ليسوا لوحدهم، وليقول للعالم ثانياً إن مؤيديه من كل مكونات الشعب. وفي هذا، إن جاز إطلاق الحكم، نصرٌ صغيرٌ حققه الأسد في الانتخابات، التي نراها نحن ويراها العالم مهزلة. غير أن هذا النصر لن يؤخر وقت سقوطه ساعةً واحدة، ولن يعيد أيامه السعيدة، حين كان البعض يقول "بشار جيد والسوء في الحاشية".
كان سعيد طالب اقتصادٍ يحلم بعد تخرجه بوظيفةٍ في مصرفٍ خاصٍّ من سلسلة المصارف التي تعدّ ملمحاً من ملامح الاقتصاد البشاريّ الناشئ، وكان يحلم بزوجةٍ ذات راتب. لكن الثورة، يقول سعيد في نفسه: "تباً للثورة خرّبت كل ذلك". ولكنه خرابٌ مؤقتٌ كما يؤمن، ولا بد أن تعود الحياة إلى طبيعتها. وها هي تعود اليوم أمام المركز الانتخابيّ، وبجوار سيارة (الأمن) ذات الدفع الرباعيّ، التي يفرح ركابها أيضاً لعودة الماضي، لكنها عودةٌ غير تلك التي يتمناها سعيد وأمه وخالاته.