كان ذلك في صيف العام 2012، بعد دخول الجيش الحرّ مدينة حلب بنحو شهر.
جاءني اتصالٌ من صديقي مجّو، يطلب مني المساعدة في البحث عن اثنين من أقربائه ذهبا إلى إعزاز ولم يعودا. اعتدت، في تلك الفترة والأشهر اللاحقة، على تلقي طلباتٍ من هذا النوع من معارف أو أصدقاء فيسبوكيين لم ألتق بهم، ظناً منهم بأن يدي طايلة، بما أنني معارضٌ عتيق. لم أكذب على أحدٍ منهم، فكنت أجيب في كل مرة بأنني لا أعرف أحداً من الجيش الحرّ، لكني سأسأل من قد تكون لهم صلات. وهذا ما حصل مع مجّو أيضاً. اتصلت بصديقٍ لي من مارع، عاصمة لواء التوحيد بقيادة المرحوم عبد القادر الصالح، وطرحت عليه المشكلة. قال صديقي علي إنه موجودٌ في حلب ويستعد للسفر إلى مارع، واقترح عليّ أن نلتقي عند دوّار الصاخور.
كانت الساعة نحو الثالثة بعد الظهر حين خرجت من الأشرفية. أخذت سرفيس خط الدائريّ الشماليّ وبدأت رحلتي الأولى إلى القسم المحرّر من مدينة حلب. انتشرت حواجز النظام بكثافةٍ على طول الطريق، بدءاً من مفرق العوارض وصولاً إلى حيّ سليمان الحلبي. من عند دوّار الجندول انقطع أوتوستراد الدائريّ الشماليّ بسواتر ترابيةٍ كبيرة، ودخلت حركة السير في أزقة الميدان الفرعية من غير مراعاةٍ لاتجاهاتها النظامية. كان نظام المرور أوّل ما سقط من النظام في حلب، وقد اختفت شرطة المرور تماماً من شوارع المدينة كأنها تبخرت.
مرّ السرفيس بسلاسةٍ عبر الحواجز، لم نتعرّض لتدقيقٍ في الهويات أو أيّ منغصاتٍ أخرى، ووصلنا أخيراً إلى مشارف المنطقة المحرّرة. بين آخر حاجزٍ للنظام في حيّ سليمان الحلبي وأوّل حاجزٍ للجيش الحرّ عند دوّار الصاخور مسافةٌ لا تتجاوز مئة متر، موحشةٌ ومنذرةٌ بالمخاطر. السواتر الترابية صمّمت بما يسمح بمرور سيارةٍ واحدةٍ فقط.
انتشر عند دوار الصاخور – تحت الجسر، مسلحون بمظهرٍ أنيق، على أكتافهم شعار واسم لواء الفتح، يوقفون السيارات ويدققون في الهويات مع السؤال عن وجهة الرحلة.
وجدت علي بانتظاري. اصطحبني فوراً إلى مقرّ قيادة اللواء قائلاً: "شباب الفتح كويسين. هلق منلتقي مع قائدهم وتطرح عليه مشكلتك". كان المقرّ المقصود مركزاً من مراكز خدمة شركة سيريتل للاتصالات الخليوية. في الصدر مكتب قائد اللواء، علّق على الحائط وراءه علماً كبيراً بالأخضر والأبيض والأسود. هناك مسلحون جالسون على مقاعد، وآخرون واقفون يدخنون ويتحدثون. كان المقدم أبو زيد مشغولاً برجلٍ جاء مشتكياً يطالب بشيءٍ له تمت مصادرته من قبل المسلحين في الحيّ. وعده أبو زيد خيراً وصرفه، ثم جاء إلينا حيث جلسنا على كراسٍ في إحدى زوايا القاعة الغارقة في الفوضى.
بدا لي المقدم حاكماً عسكرياً في منطقته أكثر من كونه ثائراً في حالة حرب، يصغي إلى المدنيين من سكان الحيّ الذين يأتون إليه طلباً لحلّ مشكلةٍ أو رفع مظلمة. هو يعرف رفيقي علي وبينهما مشروعٌ انهمكا في الحديث عنه بحيوية، بعدما قدّمني إليه. خلاصة المشروع أن المقدم يريد أن يصدر مجلةً ناطقةً باسم اللواء، ويريد من علي أن يشرف عليها. نبرته سلطويةٌ كما ينبغي لضابطٍ في الجيش السوريّ، يتحدث بلا توقف، حريصٌ على استعراض ثقافته أمام ضيفيه المثقفين، يزيّن خطابه المديد بأبياتٍ من الشعر العربيّ الكلاسيكيّ من محفوظاته، ويذكر عناوين كتبٍ قرأها، مظهراً دهشته حين نجيبه عن سؤاله لنا عنها بأننا لم نقرأ تلك الكتب.
أخيراً تمكن علي من استغلال لحظة صمت، فذكَّره بأن لديّ مشكلةً جئت من أجلها. فشرحت له ملابسات اختفاء الشخصين من كوباني مع سيارتهما.
"هل أنت كردي؟" سألني أبو زيد.
أجبته بنعم، فراح يتحدث عن حزب العمال الكردستاني وعمالته المفترضة للنظام. ثم عرّج على النزعة الانفصالية لدى الكرد. "لن نسمح أبداً بتقسيم سوريا"، قال بنبرةٍ مشبعةٍ بالثقافة القومية للجيش العربيّ السوريّ. ختم خطابه المطوّل بالقول: "لا نريد الآن فتح معركةٍ جانبيةٍ مع البي كي كي. ولكن سيأتي يوم الصدام معهم عاجلاً أو آجلاً".
أخذ مني اسمي الشخصين المفقودين ووعد خيراً. عرفت أنه سيرمي بالورقة، بعد مغادرتنا، في سلة المهملات. فهو على الأرجح لا سلطة له على جماعة إعزاز. وحتى لو كان يمون عليهم، فهو لن يطالب بكرديين من كوباني.
في طريق العودة مررت، عند المدخل الشرقيّ للشيخ مقصود على سكة الحديد، بحاجزٍ كبيرٍ يرفرف فوقه علم حزب العمال الكردستانيّ.
في مسافةٍ لا تتجاوز الكيلومتر الواحد مررت بثلاث سلطاتٍ عسكريةٍ مختلفة. تمّ تقسيم دولة حلب إلى ثلاث دويلاتٍ منذ صيف العام 2012.