كان يتحدّث بحماسٍ، ضارباً على الطاولة بين الحين والآخر، مجندلاً «ضحاياه» ذات اليمين وذات الشمال. جميعهم فاسدون، متّهمون بسرقة مال الثورة، فيما الناس في داخل البلاد يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحياة، والمقاتلون يجوعون على الجبهات ويستشهدون بسبب نقص الذخيرة!
ورغم صعوبة المداخلة أمام مثل هذا الخطاب، الذي لا يترك لمستمعيه مجالاً إلا للحوقلة والاحتساب بدمدمةٍ خافتةٍ موافقة، سألناه عن الأدلة! وحين تسأل عن الدليل في حالاتٍ كهذه فعليك التحلّي بالكثير من الصبر، إذ ستسمع الاستنكار والإدانة في البداية (وهل يحتاج فساد المعارضة إلى دليل؟!). فإن أضفت إلى صبرك الكثير من التهذيب الحذر، لئلا تبدو مدافعاً عن الفاسدين أو شريكاً لهم، وكرّرت مطالبتك بالأدلة بثبات؛ أتاك الجواب، في نهاية الأمر، مغمغماً، يعتمد على كلامٍ شفويٍّ ممن نسي المتحدّث أسماءهم، أو يحتفظ لنفسه بها، كما أنه هو المرجع الوحيد لتوثيقهم واعتمادهم مصدراً لا يرقى إليه الشكّ! وهكذا... بعكس الكلام الحاسم الأول، الذي يدين من شاء بالسرقة والاختلاس، تأتيك الأدلة شذراتٍ غائمةً لا تصلح سنداً لكلّ ما تمّ ذكره من اتهامات!
* * *
وللحديث الجادّ عن ما يدور من كلامٍ كثيرٍ عن فساد المعارضة وأجهزتها، لا بدّ لنا من مقدّمة. فأجهزة المعارضة (المجلس الوطني؛ الائتلاف؛ الحكومة المؤقتة؛ وسواها) وممثلوها في الخارج يغلب عليهم العجز وسوء الإدارة ونقص الخبرة والهدر، فضلاً عن السعي لبناء الأمجاد الشخصية أو «الكتلية»، مما أدى إلى تعمّق الانفصال الشعوريّ بينهم وبين جمهور الثورة، الذي كان يزداد فقراً وبؤساً وشعبيةً مع مرور الأيام الطويلة، التي أثبتت لهذا الجمهور أن «قيادته» لا تصلح لما يترتب عليها من مهمّاتٍ جسيمة، لا على المستوى السياسيّ ولا على مستوى تأمين الحاجات الأساسية والخدمات للمناطق المحرّرة وأهلها. وصار ظهور هؤلاء على وسائل الإعلام، بملابسهم النظيفة ووجوههم المتنعّمة وكلامهم العامّ والمكرّر والفاقد للصدق، كفيلاً بإثارة موجاتٍ من الغضب أو السخرية. ومن هنا فإن اتهام هؤلاء بالفساد وسرقة مال الثورة، الذي يسمع السوريّ العاديّ عنه كلاماً عريضاً من الوعود الدوليّة، هو اتهامٌ «مناسبٌ» من الناحية الشكلية، وهو انتقام هذا المواطن من كلّ ما يعانيه من آلامٍ، كان على هؤلاء المعارضين ردعها أو التقليل من أثرها.
هذا من ناحية. ومن جهةٍ أخرى، تُحيل هذه الاتهامات المتكاثرة، دون اهتمامٍ بالأدلة، أو مع وجود الوهن الشديد فيها، إلى خصيصةٍ لافتةٍ وسمت أخلاق السوريين في ظلّ حكم آل الأسد، وهي استباحة المال العامّ. ففي ظلّ عقليّة «عسكريّة، دبّر راسك»، التي انتقلت من الجهاز العسكريّ إلى شتى مفاصل المؤسّسات المدنية للدولة، وتهابطت من قمّة الهرم الحاكم إلى أصغر موظفٍ في مؤسّسة التبغ والتنباك؛ صار المتورّعون عن نهب المال العامّ أو الرشوة أو الاستفادة من الموقع شديدي الندرة، ينتمون إلى عهدٍ سابقٍ متقادم، حيث تقبع الأخلاق والقيم، يعلوها الكثير من الغبار.
ومن هنا فإن السوريّ حين يتهم «مسؤولاً» بالفساد فإنه لا يرى في هذه التهمة جريمةً مستنكرةً وفادحة، بل هي إلى طبيعة الأشياء والأشخاص أقرب. ولعلّه يعترف في قرارة نفسه أنه لو وضع في ذات الموضع لاستسلم بسهولةٍ للإغراءات المفترضة. وربما برّر ذلك لنفسه بشيوع هذا السلوك، أو بخيانة الآخرين للثورة وما قدّمه لها، أو بأن عشيرته الأقربين ومن يثق بهم من الثوّار أولى، وهو بتوزيع الأموال ووضعها في أماكنها «الصحيحة» أعرف. ولا بأس أن يبذل في سبيل ذلك ما شاء من استئثارٍ شخصيٍّ بمال الثورة، تختلط فيه الأوراق بين الحياة الخاصّة المريحة والهدر وشراء الولاءات.
وإذا كان علاج هذا النوع من العدمية الأخلاقية الرخيصة، الشائع بين السوريين، هو أمرٌ بعيد المدى، وهو من أسباب قيام الثورة أصلاً؛ فإن الواجب المستعجل على مؤسّسات المعارضة وممثليها هو الالتزام بالشفافية المالية بشكلٍ مبالغٍ فيه، بسبب الظروف الاستثنائية. وليعلموا أنهم ليسوا محلّ أنظار من وظّفوهم ويحيطون بهم فقط، بل تحت مراقبة مئات آلاف، بل ملايين، العيون. ولهذا السبب نزعم أن الفساد، بالمعنى الدقيق، قليلٌ ومحدودٌ جدّاً في الثورة، فعين الكلّ على الكلّ، والجميع متربّصون للإيقاع والنكاية. أما الهدر والفوضى المالية وسوء الإدارة ومزاجية اختيار المشاريع والعاملين عليها، فبلوى عامة.