تقول دراسات علم الاجتماع الحديثة، إنّ مواقع التواصل الاجتماعي خلَقت بيئة ذاتية افتراضية تعيش فيها مجموعات بشرية متقاطعة، بعيداً عن حقائق الحياة اليومية. وبصورةٍ متزايدة فإنّ هذه البيئات تُنتج عوالم مغلقة على نفسها، بتفسيراتها للحياة والواقع اليومي كانعكاس لصورة هذا الواقع ضمن قوالب أخلاقية واجتماعية، على أسس تشابهٍ طوعي. وهي، بمعنى ما، تُنتج «أقليّات افتراضية» تعيش ضمن وهمٍ شيّق.

في الواقع، إنّ هذه الحالة ليست مُستجدّة على السوريين، إذ أنّ المُنتج العلنيّ العُموميّ في صورته المبدعة، لطالما كان حدّاً خطراً في ظلّ حكم آل الأسد وعصابتهم المهيمنة على الحياة وتفسيراتها، وفي هذا السياق تظهر الإنتاجات التلفزيونية، وخصوصاً المسلسلات التي احتُكر لها اسم «الدراما»، مع أنّها، في مُعظمها، لا تُقارب مفهوم الدراما الكلاسيكي ولا تعريفه الأساس في المسرح.

تعمل «الدراما» السورية منذ بدء تحوّلها إلى المُنتج الإبداعي الرئيس في سوريا، في تسعينات القرن الماضي، بصورة شبيهة لمواقع التواصل، غير أنّها تُمثّل اتجاهاً أُحادياً في تغذية الواقع الافتراضي الذي تعيش فيه.

وإذا كان هناك ما ينطبق على رؤية أمبرتو إيكو لمواقع التواصل؛ بأنّها «تمنح فيالق الحمقى حقّ الكلام» في سوريا، فهو واقع «الدراما» وليس مواقع التواصل –الحقيقة أنّ الروائي الإيطالي، ذائع الصيت، يُقدّم في تفسيره انتقاصاً غريباً من قيمة الحرية المُجردة عبر التذمّر من شُيوع حق الكلام– ولعّله لو تابع جزءاً مما يُقدّم على أنّه دراما، لقام بتضييق تعميمه الصادم.

تُقدّم «الدراما» التلفزيونية حلّاً مزدوجاً للسلطة على حساب المُتلقي، فهي من جهة «صنف إبداعي» مُكلف، ما يعني أنّ احتكاره سيقع دائماً تحت سطوة ماكينة التمويل، وفي سوريا لايوجد من هو قادر على أداء هذه المهمة سوى «الدولة –النظام» ذاتها، أو مُتموّلين من أثرياء النّهب العام وتجّار السلطة -تكفي جردة سريعة لمالكي شركات الإنتاج التلفزيوني لمعرفة كيف تسير الأمور-، ومن جهة ثانية، تُتيح آلية التحكّم التمويليّ الاختيار قسراً والانتخاب فرضاً لنوعية المُنتج المُقدم. وصحيح أنّ هناك أسماء كثيرة تستحقّ الاحترام والتقدير في عالم الدراما السورية، إلّا أن حضورها كان دائماً مترنحاً تحت سطوة الرديء.

لم تشهد سوريا تطوراً موازياً للسينما والمسرح في الآونة ذاتها، لأنّ المتلقي في حالتيهما «شريك» تمويليّ، بينما ينحسر دوره في الدراما التلفزيونية إلى متلقٍّ سلبي، يخضع لنتيجة العلاقة بين شركات الإنتاج والمحطات الفضائية التي تعرض المُنتج، وتُموّل نفسها من مصادر حكومية وشبه حكومية ومن الإعلانات.  

والدراما، أيضاً، مُنتج «إبداعي» يُتيح، في شروط الطغيان، تجنّب الحاجة الى الفائض الذي يحتاجه المتلقي؛ كي يُشاهد السينما أو المسرح أو أن يشتري كتاباً. لكنّها في المقابل أتاحت نقل الصورة التي اشتقّها أمبرتو إيكو بصورة مقلوبة، أي أنها تحوّلت في جزء منها إلى خدمة «بروباغندا» النظام، عبر تقريب ونفي مُنتجين مُحدّدين، وترويج مفاهيم مُحدّدة اجتماعياً واقتصادياً، وحتماً سياسياً.

ألقِ نظرة فحص سريعة، ستكتشف بسهولة أنّ الدراما السورية بنَت واقعاً افتراضياً لبلاد من تعتقد آلة الحكم أنّهم «فيالق الحمقى»؛ الذين لا يملكون حق الدفاع عن عقلهم في مواجهة تصوير مُزيف لواقعهم وتاريخهم.

ولابدّ من القول، إنّ ثمّة «تطييفاً» للصورة التي قُدّمت عن محتوى «الجمال» الشخصي والذهني، وتمجيداً لحياة «الخشاش» الهبيّة في مجتمع مقهور، وإعلاء لشأن الفقر كسلاح تعايش مع مجتمع لا يوجد تفسير لإصراره على الفقر.

في «الدراما»، وعلى مدى سنوات، تركّزت رمضانات السوريين والعرب الذين تستهويهم الحكائيات الخرافية للشام العتيقة -حول مقاومة واقع افتراضي، لا يعرفون متى عاشته مدينتهم العريقة، وحول استغرابات ساخرة لواقع آنيّ لا يعرفون أين يجدونه في سوريا المعاصرة.

صورتان أساسيتان لسوريا، فهي إما حارات غارقة في التخلّف الاجتماعي والاقتصادي، ونساء يتعرّضن للتعنيف ليلاً نهاراً، ورجال يعيشون على أمجاد شواربهم، وهذا ليس صحيحاً بالمطلق، وإمّا مجتمع معاصر يعيش حياته بمعزل عن أثر سلطة آل الأسد، وهذا كذب محض.

ثمة أقلية افتراضية تعيش في سوريا، في بيوتنا وشوارعنا تُقدمها الدراما، لكن أحداً منا لم يشاهد أحداً منها يوماً... عالم جنّ كامل حقّاً.