جنديان من "الحسبة" في شوارع الرقة
ليست الحياة في ظلّ داعش شاقةً فحسب، بل هي غريبةٌ كذلك. فتحايل السيد (م)، وهو صاحب دكانٍ في سوق منبج، على بند التدخين، يحمل كثيراً من الصبيانية في سلوك الرجل الذي جاوز الخمسين. إذ يتحايل (م) على قانون عقوبات داعش ببضع خطواتٍ فقط يخطوها من واجهة الدكان، ليلوذ كمراهقٍ في حيّزٍ خلفيٍّ ضيقٍ-يفصله لوح خشبٍ رقيقٌ- من دكانه. ليشهق، خلال عدّة ثوانٍ، شهقاتٍ عنيفة من سيجارته قبل أن يطفئها مؤقتاً ويعود مبتسماً الى الواجهة. لقد كفّ (م) عن الانشغال بشوقه إلى السيجارة خلال ساعات عملٍ طويلة، بانتظار العودة إلى البيت، بعد أن تعلم كيف يمارس التدخين ويخفي هذه المعصية وهو في دكانه في السوق، وعلى عين جنود الحسبة.
يتساءل مدخنٌ عجوزٌ، صودرت علبة تبغه على حاجز يتأمّره سعوديّ: " يا ابن أخي؛ هل جئت من السعودية إلى هذه القرية في منبج لكي تأخذ باكيتي؟!". يضحك السعوديّ ويدعو للمدخن العجوز بالهداية.
***
بين المغرب والعشاء، وفي مسجدٍ من مساجد الطبقة، يجيب شرعيٌّ مهاجرٌ عن أسئلة الحضور. يقلّب الشرعيّ بضع قصاصات ورقٍ خُطّت عليها الأسئلة، ويستنكر متألماً إعراض الناس عن الدين: "سؤالٌ واحدٌ عن الحلال والحرام، والباقي شكاوى على جنود الدولة!!". الشكوى الأولى: على حاجز الصفصاف، وعندما تأخرت في إخراج هويتي، صاح بي ولدٌ يحمل بارودةً أطول منه: استح على شيبتك وطلع الهوية ولا تكذب. الشكوى الثانية: دفعني شرطيّ المحكمة الإسلامية وهدّدني بالجلد لأنني حاولت مقابلة القاضي. الشكوى الثالثة: بيني وبين جاري مشكلةٌ قديمة. وعندما سيطرت الدولة على الطبقة بايعكم ليستقوي عليّ. ومنذ ذلك الوقت وأنا أتلقى التهديدات منه بأنه سيصلبني بعد أيامٍ قليلةٍ على دوّار الشرطة العسكرية. تنتهي الشكوى بطلب نصيحة: ماذا أفعل يا شيخ؟
يا أخوة -يقول الشرعيّ- يمكنكم أن تردّوا فوراً على أيّة إساءة. ولا تخافوا من سلاح الجنديّ فهو لا يستطيع إطلاق النار إلا بأمر. واعلموا أن سلوكات هؤلاء الجنود أخطاءٌ فرديةٌ يتحملون هم مسؤوليتها ولا تتحمل الدولة ذلك. ذات مرة نهرتُ أحد الأخوة الأنصار عن تصرفاتٍ خشنةٍ يقوم بها في حقّ الناس فأجابني: الناس هنا فاسدون بالأصل يا شيخ. أنا منهم، وأعرف أن اللغة الوحيدة التي يفهمونها هي لغة القوّة.
***
في لحظة صفاءٍ، أمام مطعمٍ للوجبات السريعة قريباً من دوار النعيم في الرقة، يفضي مهاجرٌ ليبيٌّ لصديقه الأنصاري بمكنونات نفسه: ظننت، عندما تركت بلدي، أنني سأكون محبوباً جداً في أرض الشام، وسيرحّب بي أيّ شخص بـ"أهلاً بالمهاجر". لكنني، وللأسف وسبحان الله، اكتشفت أن الناس هنا يخافون مني فقط.