صالح العاني «أبو المهاجر»:
حكاية داعشي من عشيرة الشعيطات

في بلدته الكشكية، إحدى بلدات عشيرة الشعيطات الثلاث، يحاول صالح العاني، المبايع البارز لداعش، أن يظهر بمظهر المعتزل عن التنظيم. ويردّد أمام أهل البلدة أنه تركه لأنه مشغولٌ بشؤونه الشخصية وليس لديه ما يكفي من الوقت للالتزام.

يتمتع العاني بقدرٍ من الحيلة والحذر، مما جعله يفكر في أيامه القادمة. فهو يريد، بابتعاده المزعوم عن التنظيم، أن يفلت من المصير البائس الذي ينتظر «الدواعش» وأن يتنصل مما اقترفت يداه في صفوفهم من قتلٍ وخيانةٍ وسرقة، ومن دوره في تمكين داعش من أبناء عشيرته، ثم ارتكابها المذبحة الفظيعة بهم، صيف 2014.

في أول ذلك العام، وبُعيد طرده من جبهة النصرة، اتخذ العاني لقب «أبو المهاجر» تزامناً مع بيعته السرّية للتنظيم. ثم، وفي أول المعارك ضد داعش حينذاك، ألقي القبض عليه قرب جبهات القتال بصحبة مهاجرين عرب في صفوف التنظيم، أعدموا جميعاً ونجا هو بإقناع آسريه أنه مجرّد سائقٍ ينقل هؤلاء كركابٍ بالأجرة. أطلق سراحه لكنه ظل على ولائه لداعش، يؤدي ما يكلف به من التجسس وإطلاق الشائعات التي تحط من عزيمة الرافضين للتنظيم. وخلال تنقله من مكانٍ إلى آخر، قبل سيطرة داعش، كان يصطحب ابنته ذات السنوات الثلاث لاستجلاب الرأفة وإثارة الشفقة في أنفس طالبيه تحسباً لوقوعه في قبضتهم. وحين رجحت كفة داعش في صراعها ضد الجيش الحرّ والفصائل الأخرى، أخذ أبو المهاجر يتوعد الجميع، قادة كتائب، إعلاميين، مستولين على آبار نفط، ناساً عاديين، وكل من لا يروق له. وصار يدعو علناً إلى بيعة التنظيم ويبشر بدولته الوشيكة: «هاي دولة ناس مثل الصحابة، ما يهمها دنيتكم، وما تريد شي غير تعلمكم الدين». وعندما شرّدت داعش عشيرته وقت المذبحة، راح يساوم شبان الشعيطات الهاربين من الموت على دفع 10 آلاف دولار مقابل ورقة تزكيةٍ وهميةٍ بتوقيعه بصفته «الأمير أبو المهاجر» وبختم «الدولة الإسلامية» المزوّر. قادت أوراق التزكية تلك عشرات الشبان إلى حتفهم على حواجز داعش في طرق محافظة دير الزور. وفضلاً عن انشغاله بملاحقة المطلوبين والإيقاع بهم تتبع أبو المهاجر الأموال والأسلحة المخبأة، وخاصة لدى المسيطرين سابقاً على آبار النفط. وارتكب في تتبعه هذا جرائم عدّة، كان أشهرها اعتقاله طفلاً في الثالثة عشرة من العمر ليدله على خزنة مال عمه المتحكّم في أحد الآبار. وبعد أن عثر عليها، بإرشاد الطفل، قتله بذريعة بلوغه وبتهمة الردة. وبناءً على هذه التهمة برّر هوايته في مشاركة الدواعش تقاذف الرؤوس المقطوعة أو ركلها في أوقات التسلية عقب كل واقعة ذبح، كما ينقل أهل الكشكية وأبو حمام وغرانيج عن الرجل الذي حرص -رغم استهتاره بالدماء- أن يبني سمعةً مضادةً بأنه يساعد الناس ويبذل ما يستطيع لإنقاذ أبنائهم. إذ روى بعض الأسرى أنه كان سبب نجاتهم من الذبح في إصدار داعش الشهير «فشرّد بهم من خلفهم»، واتهم، في الوقت عينه، أنه حاول أن يزجّ ببعضٍ آخر من الأسرى في حقل العمر النفطيّ، آنذاك، في الإصدار ذاته، لولا تدخل أبو عثمان الليبي، أحد أبرز المسؤولين عن مذابح الشعيطات، الذي طرد أبو المهاجر من الحقل مقابل رشىً ضخمةٍ تلقاها من ذويهم.

قبل الثورة، عرف صالح العاني بمغامراته الطائشة وفشله المتكرّر في كلّ مهنةٍ امتهنها، سمساراً يزعم قربه من مسؤولين حكوميين تارة، أو تقنياً في صيانة التلفزيونات تارةً أخرى. وبين حينٍ وآخر كان يعود إلى العمل الذي يستهويه في تهريب المواشي من العراق إلى سورية، وربما تهريب «مجاهدين» في الطريق المعاكس بعد الغزو الأميركيّ للعراق، حسب بعض ما يروى عن سيرة الرجل الذي سجن مرّاتٍ عدة، إحداها في سجن صيدنايا حيث مرّ بسلفيين جهاديين ادّعى أمامهم أنه يحمل الفكر الذي يحملون. وبعد خروجه من صيدنايا كان يثرثر ببعض ما سمعه هناك عن الجهاد والكفر والتوحيد، مما أهّله، فضلاً عن تجربة سفرٍ إلى ليبيا بغاية العمل، ثم تهريباً بسفرٍ آخر إلى العراق، ليكون ابن الجوّ الذي حلّ على دير الزور، مع مهاجري جبهة النصرة في العام 2012 والعام التالي، فبرع في التقرّب من أمرائها والفوز بثقتهم، فبايع الجبهة وتسلم منها أموالاً طائلةً لوظائف شتى، قبل أن تخلع بيعته عقوبةً على سلسلة سرقاتٍ أكيدةٍ اتهم بها.

في عهد داعش كان لأبو المهاجر حظوة لافتة لدى مهاجريها أيضاً، بخاصة الليبيين منهم، تعززها خبرته باللسان والطباع والنزوات، مما مكنه من إحراز نفوذ واسع استغله لجني الأموال، والتنصل عن أي مشاركة خطرة بأي من معارك التنظيم خشية الموت، إذ فرغ نفسه شكلياً كمسؤول صغير في ديوان الخدمات، قبل أن «يعتزل» اعتزاله الأخير، بـ«مالي شغل مع الجماعة» ويتفرغ لتجارة الوقود والسيارات والبضائع.