ربما من الغريب أن تعثر اليوم على من لا يزال يجد في نفسه ما يكفي من الحماس لشتم الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة والحكومة السورية المؤقتة، وأعضاء هذا وموظفي تلك. بعد أن مرّت شهوة الشتم هذه بذروتها الصيف الماضي، إثر إقالة الحكومة وما تسرّب من كواليس فشلها وركاكة أدائها وسوء إدارتها للمال المفترض أن يكون عاماً، ولا سيما في ملفّ رواتب منسوبيها، الأمر الذي شاع بشدّةٍ. وبالمقابل، ما بان وقتها من ملامح ائتلافيةٍ كيديةٍ في هذه الإقالة، مع انقسام الائتلاف كتلاً وشيعاً وولاءاتٍ قيل الكثير عن مدى عرضها في بازار النفوذ الإقليميّ بثمنٍ بخسٍ وقابلٍ للتفاوض.
وقتها، كان الاطلاع على صفحة الحكومة المؤقتة على الفايسبوك نوعاً من التسلية البهيجة؛ فتحت أيّ منشورٍ للصفحة تقرأ مئات التعليقات اللاذعة، حتى اضطرّ المكتب الإعلاميّ للحكومة إلى تكليف موظفٍ خاصٍّ بمتابعة التعليقات وحذف الناقد منها، فازداد المشهد طرافةً. إذ، فجأةً، صار اللاهي بزيارة الصفحة يفتقد مئات التعليقات تلك، ويجد تحت المنشور تعليقين أو ثلاثةً من نوع «بارك الله بكم وجعل هذا العمل في ميزان حسناتكم»، أو «نتمنى تقديم الدعم العاجل للمجلس المحلي في قرية الزعفرانة». ولما بدا الأمر كاريكاتيرياً هكذا؛ أوعز المكتب الإعلاميّ لموظفه بحذف التعليقات المقذعة فقط، وبالردّ المهذب على النقد. ولكن المشهد كان يأبى إلا أن يرتقي إلى ذروةٍ غير مسبوقةٍ من الإضحاك حين تقرأ تعليقاً مثل «من نصبكم حكومة علينا أيها المتسلقون على الثورة؟؟؟ أنتم شركاء بشار في قتل السوريين ولا تهمكم إلا المناصب والدولارات» وردّ الصفحة، ذات الاسم المهيب والنصف مليون معجب، عليه بقولها: «الله يسامحك أخي»! أما إن أردت الاطلاع على الشتائم الفاحشة فكان عليك –في تلك المرحلة- أن تنتظر حتى قبيل الفجر، بعد أن ينام هذا الموظف منهكاً من غزارة التعليقات وردوده المتلاحقة عليها، فترجع الصفحة إلى «غناها» بأسماء الأعضاء الجنسية، حتى يستيقظ الموظف ويفتح اللابتوب ويكنسها من جديد.
انقضت تلك الأيام، بحلوها ومرّها، أو بمرّها ومرّها ربما. استعادت الحكومة توازنها نسبياً بعد التجديد لها من قبل الائتلاف، ولكنها فقدت قيمتها وتمويلها، فصارت أشبه بشركةٍ مفلسةٍ يتردّد إليها موظفوها باستخفافٍ لشرب الشاي الباهت وسؤال «صاحبها» بوقاحةٍ عن المستحقات. أما الائتلاف، الذي جدّد لها بعد أن أقالها، فقد لحقته لعنات جمهور الثورة وأبناء مناطقها ومهجّريها لأسبابٍ لم يكن توالي الإقالة وتجديد التكليف هذين أولها ولا آخرها. ثم ملّ الشاتمون واللاعنون، ولم يعد للاهتمام بالائتلاف أو الحكومة معنىً لدى الكثيرين، وسرّحت الأخيرة موظف مكتبها الإعلاميّ.
ولكن الأمر ليس طريفاً فقط، ففي وجهه الآخر مأساةٌ كبرى. ولمعرفة فداحة ما خسرناه بفشل هذين الكيانين يجب أن نتذكر لماذا سعينا إلى قيامهما ورفعنا لافتات التأييد لهما في المظاهرات.
فالثورة تحتاج إلى جسمٍ تمثيليٍّ جامعٍ لطرح مطالبها والتفاوض عليها في المحافل الدولية، كما لإدارة شؤونها المختلفة بشكلٍ إستراتيجيٍّ. وينبغي أن لا نغفل هنا عن وجود كتلٍ ائتلافيةٍ تمثل –نظرياً- القوى العسكرية والمجالس المحلية والحراك الثوريّ والروابط والنقابات الحرّة الوليدة، بالإضافة إلى التيارات السياسية السورية التقليدية المعروفة من اليمين إلى اليسار، والمستقلين.
كما قاد تطوّر وتشعّب الاحتياجات على الأرض السورية، من الإدارة والقضاء والتعليم والصحة والإغاثة إلى الخدمات المتنوّعة، مع اتساع رقعة المناطق المحرّرة وتأثير ذلك على حياة ملايين السوريين؛ إلى الحاجة إلى جسمٍ تنفيذيٍّ فاعلٍ لإدارة وتنظيم هذه الشؤون عملياً وبالتفاصيل، سواءٌ سمّي هذا الجسم حكومةً أم غير ذلك.
إذاً، في أصل الحكاية، وقبل الحديث عن بذخ الاجتماعات الفندقية والرواتب العالية، تكمن حاجةٌ (بل حاجاتٌ) ماسّةٌ إلى الائتلاف والحكومة، لا بهؤلاء الأعضاء تماماً، ولا بهؤلاء الوزراء والموظفين بالضبط، ولكن بهذه الصفات؛ تجمّعٌ يضم أبرز السياسيين والعسكريين والقادة المحليين وسواهم، وجهازٌ تنفيذيٌّ نشطٌ ومتعدّد المهام.
وبالنظر إلى أن المحاولات الكثيرة لتشكيل بديلٍ عن الائتلاف لم تنتج إلا تجمّعاتٍ صغيرةً ومضطربةً من الطامحين الصغار الجدد في «الكراسي»، أشدّ بؤساً بما لا يقاس من هذا الائتلاف البائس نفسه، وإلى أن البديل عن الحكومة هو تعدّد الإدارات المحلية والتقاسم العشوائيّ للمهام بين مئات الهيئات والمنظمات الصغيرة والمكاتب الخدمية والطبية والإغاثية؛ فلا مهرب من تكرار الكلام ذاته عن أن طريقنا الوحيد –حالياً- هو إصلاح الائتلاف والحكومة... إنها نتيجةٌ مخيّبةٌ بالفعل، ولكن يبدو أنها إجبارية.