الرئيس شكري القوتلي يلقي خطاباً أمام البرلمان السوري عام 1943
من صفحة "التاريخ السوري"
هذه لقطاتٌ عابرةٌ من حياة سورية بعد الاستقلال مباشرة، وكانت آنذاك تعجّ بالحركة والأحزاب المتناقضة في أيديولوجياتها ومناهجها، لكنها لم تعرف بعد إلغاء الآخر.
يتذكر السوريون مرحلة ما بعد الاستقلال بكثيرٍ من الحنين، وينقلون صورة المجتمع الذي كان على درجةٍ من الوعي والديموقراطية التي لم تكتمل حلقاتها، ويجمعون مشاهد وصوراً جديرةً بأن تخلّدها الذاكرة. ومما يذكرون كيف أن الشاعر عمر أبو ريشة اعتلى المنصّة وألقى قصيدته الشهيرة بحضور جمهورٍ غفير، كان رئيس الوزراء السوري آنذاك، جميل مردم بك، بينهم في القاعة. ومن أبياتها:
أمتي هل لك بين الأمـمِ منبـرٌ للسيـف أو للقلـــــمِ
كيف أغضيتِ على الذلِّ ولم تنفضي عنك غبـار التُهـمِ
ودَعـي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنـمِ
ربَّ وامعتصمـاه انطلقت ملء أفــواه الصبايا اليتّمِ
لامست أسماعــها لكنها لم تلامس نخوة المعتـصـمِ
أمتــي كم صنـمٍ مجّدتِه لم يكن يحمل طهر الصنــمِ
لا يُلام الذئـب في عدوانه إن يكُ الراعــي عدوّ الغنـمِ
فاحبسي الشكوى فلولاكِ لما كان في الحكم عبيد الدرهــمِ
إن أرحام البغـــايا لم تلد مجرمــاً مثل هذا المجــرمِ
كيف ترجو أمـةٌ عزّتــها وبها مثلُ جميـل المــردمِ
وفي قصةٍ أخرى تحمل الدلالة نفسها على الجوّ العام الذي يحمل بذور ليبراليةٍ نسيها السوريون، حين اعتصم طلاب جامعة دمشق في مكتب وزير الاقتصاد آنذاك، رزق الله الأنطاكي، احتجاجاً على موافقة الحكومة السورية على إبرام صفقة تصدير القمح السوري إلى فرنسا؛ وكانت النتيجة أن ألغيت الصفقة تحت ضغط الجماهير التي كانت تتضامن مع الشعب الجزائري في نضاله ضد المستعمر الفرنسي. كان الشعب السوري يتمتع بقدرةٍ هائلةٍ على الاحتجاج، ولم تكن سوريا قد دخلت بعد دائرة الخوف.
ولدى استعراض حالاتٍ مشابهةٍ يمكننا الوصول إلى شهاداتٍ كثيرةٍ تلهم الذاكرة بأحداثها ورجالاتها، وتشير إلى أن المجتمع السوري كان في حالةٍ متقدمةٍ من الوعي والليبرالية، كما كان بعيداً عن التزمّت والطائفية والمفاهيم المغلقة، بدليل أن حسني الزعيم، وهو كردي الأصل، وصل إلى سدّة الرئاسة دون التركيز من قبل المجتمع على الانتماء العرقي، بقدر ما كان التركيز على طبيعة الانقلاب العسكري والقوى التي وقفت وراءه. كما استلم فوزي سلو رئاسة سورية خلال أعوام 1951ـ 1953، وهو كذلك من أصول كردية. وفي حالاتٍ أخرى شغل المسيحيون والدروز والشراكس والإسماعيليون مناصب رفيعةً في تاريخ الدولة السورية، دون أن يستكثر المجتمع مرةً واحدةً على أيٍّ من تلك الحالات، إلا من زاوية الإخلاص للمهمة الموكلة لأيٍّ منهم. حتى أن ذاكرة السوريين ما زالت تحفظ، بكثيرٍ من التبجيل، أعمال رجالاتٍ من غير الأكثرية أخلصوا لوطنهم، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم، مثل فارس الخوري (المسيحي) الذي تولى مناصب عديدة ومهمة منها رئاسة الوزراء، أي صاحب السلطة التنفيذية الأولى في البلد ذي الغالبية المسلمة.
صمتت سورية فجأةً وتوقّفت الحياة السياسية فيها بحجة الاستقرار وسيطرة الحزب الواحد والقائد الواحد، وتصحّرت الحياة بكل نواحيها، وتحوّلت إلى مدجنة!! لباسٌ موحّدٌ وهتافٌ واحدٌ للقائد، وحزبٌ واحدٌ بشعاراتٍ تصرخ بها حناجر الصغار في المدارس قبل الدخول إلى غرف الصف، دون أن يتحقق أيٌّ منها طيلة أكثر من نصف قرن... وخطاباتٌ صفّق لها الكبار بين جدران القاعات، دون أن نجد لكلماتها اليوم أثراً أو تجسيداً في مكان.
ومنذ أعوام الستينيات دخلت سورية في عهد القمع، عهد أقبية الأمن والبوط العسكري. وتم دفن بوادر المشروع الليبرالي السوري الناشئ نهائياً في عنابر الزمن العسكري. ومنذ ذلك التاريخ تراكم القمع نوعياً وكمياً. ومع تفاقم الأخير لم يكن يتقدّم سوى الخوف والتخلف على كل المستويات. وهكذا دفع التخلف في السياسة إلى تخلفٍ في جميع مناحي الحياة الأخرى. يتعذّر على الخوف أن يبني وطناً، ومن لا يكترث لهذه المقولة فلينظر إلى خارطة العالم.
استغل بعض العسكريين الأجواء الليبرالية وبدأت مشاريعهم الطائفية الضيقة تطفو على السطح مستغلة الانقلابات الكثيرة. وبشكل سريٍّ تم تشكيل "اللجنة العسكرية" في العام 1961، وهي التي تتألف من (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد (من الطائفة العلوية)، وأحمد المير وعبد الكريم الجندي (من الطائفة الإسماعيلية). وبدأت مخططاتهم السرية تأخذ حيّز التنفيذ حين تسنّى لهم إنجاز انقلاب 1963. ومرة أخرى أحدثوا انقلاب 1966، وخلاله تم إقصاء "القيادة التاريخية" لحزب البعث. ثم أفرغوا الجيش من خيرة الضباط ممن ينتمون إلى الطائفة السنّية، لأسبابٍ مختلفة، وكان لذلك أثرٌ مباشرٌ في نكسة حزيران 1967. وأخيراً انقلب حافظ الأسد على رفاقه أعضاء اللجنة، وقام بانقلابه الذي استولى فيه على السلطة عام 1970، وسجن رفاق العهد حتى نهاية حياتهم (صلاح جديد)، وقضى البعض الآخر اغتيالاً (محمد عمران). وبدأ مشروع تقزيم سورية على مقاس حاكمها الضيق، فضاع إرث الشعب العظيم الذي واجه الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي، وخرج برجالات البرجوازية الوطنية بعد الاستقلال. ونذكر رجالاً لا زالت أسماؤهم حاضرةً في ذاكرتنا، أمثال شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وماري عجمي وسلطان باشا الأطرش وعبد الرحمن الشهبندر وميشيل عفلق وجلال السيد وياسين الحافظ وخالد العظم وفارس الخوري وعبد السلام العجيلي ومصطفى السباعي، وغيرهم المئات. بموازاة ذلك كان منحنى تراكم وتفاقم القمع في سوريا صاعداً نوعياً وكمياً.