باغت اندلاع الثورة السوريين جميعاً، ووضعهم مباشرةً أمام استحقاق الموقف منها. وقد تفاوتت المواقف بحسب عوامل كثيرة، منها الطائفة والجهة والمستوى الاقتصادي والقطاع المهنيّ... ولوحظ وقتها أن حقل المشتغلين بالثقافة، من أصحاب رأيٍ وشعراء ورسّامين وروائيين ومسرحين وسواهم، كان من أقلّ الشرائح انحيازاً إلى صفّ الثورة، نتيجة أسبابٍ عديدةٍ يصعب شرحها هنا.
لكن الثورة لم تعدم، بطبيعة الحال، من أيّدها من المثقفين الكبار أو الأقلّ شأناً. بل إن مثقفاً وأكاديمي بارزاً، هو برهان غليون، تولى رئاسة أوّل هيئةٍ معارضةٍ نطقت باسم الثائرين (المجلس الوطنيّ)، ولعب وما يزال أدوراً سياسيةً وتمثيليةً معروفة. فيما تابع مثقفون آخرون مساراتهم المعتادة، بكتابة المقالات أو الأعمال الأدبية أو إخراج الأفلام... ولكن في سياق الثورة.
وعبر مسيرة السنوات الأربع المنصرمة، يمكن أن نلحظ ثلاث موجاتٍ من الهجوم تعرّض لها هؤلاء المثقفون من جهاتٍ مختلفةٍ. ويمكن رصد هذه الموجات وتحليلها فيما يلي:
أولاً) هجوم النظام وأبواقه: وبدأ منذ اندلاع الثورة، باستهداف كلّ من برز فيها، مثقفاً كان أم رجل دينٍ أم ناشطاً مؤثراً في التظاهر. وكانت لهذا الهجوم ملامح هيستيرية تشي بأثر الرضّ النفسيّ الذي أحدثته الثورة في صفّ النظام ومؤيديه. ومن أبرز هذه الملامح اتهام الرموز المتكوّنة بالشذوذ الجنسيّ والفضائح الأخلاقية (التي حوتها فلاشة الشعيبي الشهيرة، أبرز «أيقونات» هذا النوع من الاتهامات)، قبل أن تتسلح الثورة ويغلب عليها الطابع الإسلاميّ، مما أحال الهجوم على مثقفين علمانيين وسلميين إلى خانة عدم الجدوى التعبوية، وهي وظيفة إعلام النظام ومشتقاته هذه السنوات، فتراجع الهجوم واستقرّت كراهية هذا الإعلام على «الإرهابيين» والنصرة وداعش...
ثانياً) هجوم أبناء الثورة ذاتها: وهو أمرٌ لا يمكن فهمه إلا بالنظر إلى الطبيعة المتتالية لطبقات رجال الثورات، وتعاقبهم «الجيليّ» المتسارع، واستهلاكها لطواقم من الرموز كلّ عامٍ أو عدّة أشهر. فقد حوّلت جماهير المتظاهرين، خلال السنة الأولى للثورة، عدداً من المعارضين القدامى، والمثقفين الذين برزوا على الفضائيات، إلى أيقوناتٍ وقادةٍ افتراضيين، في غياب قياداتٍ سياسيةٍ تستحق هذا الوصف، أو قادةٍ ميدانيين حقيقيين. وانتظرت هذه الجماهير منهم تحديد بوصلة الثورة وبناء تحالفاتها الخارجية ومعالم دولتها البديلة. ولما فشل هؤلاء في كلّ ذلك –تقريباً-، لأسبابٍ كثر الحديث عنها، وبرزت في الوقت ذاته، بالتزامن مع التسليح والوجه الإسلاميّ والنزوع الطائفيّ، قياداتٌ ميدانيةٌ مقاتلة وجذابة، لأنها أقرب إلى جمهور الثائرين تكويناً وخطاباً ونمط عيشٍ وقرابة؛ ارتدّ هذا الجمهور على أصنامه السابقة، التي صنعها من تمرٍ وتصريحاتٍ، محطّماً وساخراً ومتبرّئاً، ومباهياً بجهلٍ هو أقرب إلى «الأرض» من «التنظير» غير المجدي. ولم يخلُ هذا التيار الجارف من مثقفين متوسّطين أو صغارٍ أيّدوه لدوافع شعبوية (تملّق شعارات الشعب)، مصفّين ثاراتٍ شخصيةً أو معرفيةً مع من كانوا للتوّ رموزاً. والحقّ أن الموجة الأولى من الهجوم لم تؤثر في المستهدفين بها، لوضوح سخفها وسعارها. أما الموجة الثانية من تنكّر الأبناء فقد أورثت المعارضين التاريخيين وأمثالهم من المثقفين شعوراً بالمرارة لا يكاد يمحى.
ثالثاً) هجوم الرماديين: وقد تلقفوا المعارضين العلمانيين والمدنيين واليساريين عائدين مثخنين بالتجريح، بعد أن تنكّرت لهم «ثورتهم» وهمّشتهم، خطاباً وأهدافاً وقيماً وأحزاباً وشخصيات. فجاءت الفرصة الذهبية للرماديين وأنصاف مؤيّدي النظام ليثأروا بدورهم من الصَغار الذي تلبّسهم حين اندلاع الثورة، إذ وقفوا متوجّسين منها دون مبرراتٍ مقنعةٍ –وقتها- ورغم أنها نادت بالشعارات التي زعموا المطالبة بها عمراً طويلاً وكتاباتٍ وأعمالاً درامية. ولكن، ها هي «الأيام تثبت» صحّة ما زعموا أنهم رأوه وقتها في الثورة من ملامح إرهابيةٍ وطائفيةٍ وتخريبيةٍ لـ«مؤسّسات الدولة». ورغم قيام موقف هؤلاء على التدليس على مستوياتٍ متعدّدة، فإنهم باتوا يحوزون في الحقيقة بعض الحجج التي يستطيعون بها الآن مخاتلة انكشاف عوراتهم، وانتحال موقع الحكيم الذي يذكّر زملاءه من المثقفين بعبارته الأثيرة: «ما قلنالكن!»، مخفياً شماتةً عميقةً ونذالةً تتنفس الصعداء.
ولكن السؤال، هل ما يجري هو نهاية العالم؟ بالطبع لا. سيعود الشباب المنتشون بأسلحتهم وسيطرتهم ولحاهم ويركنوا إلى الواقع ويسلّموا أن لكلٍّ دوره، بعد أن حطّموا نرجسياتٍ كانت تأخذ بالتشكل، وهذا أمرٌ مفيدٌ للطرفين. أما مرضى القلوب فستتعرّى ادّعاءاتهم الزائفة، لأن الزمن لا يرحم أحداً. المطلوب من المثقفين، ومن الجمهور العريض للثقافة والأنشطة المدنية للثورة، هو الهدوء والصبر والتماسك الانفعاليّ والفكريّ والثوريّ والسياسيّ، والإعداد للجولات القادمة.