جولةٌ في البوكمال.. ثرثرة في الحارات الخلفية

تعيش مدينة البوكمال (129 كم شرق دير الزور) اليوم مخاضاتٍ عدّةً في ظلّ تنظيم الدولة الإسلامية، ليس أولها حسم أهاليها أمر انتمائهم إلى الجانب السوريّ من الحدود السورية العراقية التي يعيشون قربها، وليس آخرها انتظار ما سيفعله «جيش سوريا الجديد» المرابط في معبر التنف الحدوديّ (247 كم شرق دمشق، 236 جنوب غربي البوكمال).

لا يخفى على أحدٍ الهوى العراقيّ الذي حمله أهالي المدينة على مدى عقود، إضافةً إلى التداخل الاجتماعيّ الذي احتفظ به وعزّزه الكثيرون منهم. ورغم أن ذلك الهوى ما زال يملي عليهم خياراتهم على أكثر من مستوى (كنوع الطعام وبرامج التلفزيون والأغاني والمعارف الشعبية) إلا أنه تراجع عن كونه هاجساً يدفع إلى الولاءات السياسية. بل أكثر من ذلك يحاول هذا الهوى اليوم الفكاك من الحاضر العراقيّ الرديء المتمثل في سيطرة التنظيم، والتماهي مع ماضيه المتمثل في العهد الصداميّ الذي ما زال يراه جميلاً.

أكثر ما يظهر فصام الهوى هذا في حيّ طويبة الشعبي، حيث تعقد الجلسات العائلية أمام البيوت، وعلى هامش قوانين التنظيم، بشوارب الرجال الكثة وسجائرهم المشرعة، ووجوه النساء المطلة من الأبواب. على أن قادة التنظيم فطنوا إلى الحياة المنعزلة التي تعيشها المدينة بعيداً عنهم وما قد تشكله لمستقبل دولتهم، فراحوا يحاولون إبقاء زمام الأمور في أيديهم، رغم أنهم صاروا متأكدين من أن التنظيم لم يعد مرحباً به وسط ما كانوا يعتقدون أنه حاضنتهم الشعبية.  ففي إحدى خطب الجمعة الأخيرة حذر خطباء من مغبة التعرّض للعراقيين الموجودين في المدينة على أكثر من مستوى، وبحسب ما نقل عن أحد الخطباء فإن «أي شخصٍ يتشاجر مع عراقيّ، أو يسيء له بالكلام، أو يقول: إن العراقيين هم سبب غلاء الاسعار، أو إنهم سبب المشاكل؛ فستكون عقوبته 100 جلدةٍ في ساحة الفيحا». الأمر الذي يعبّر عن تبرّم السوريين بالعراقيين رغم أنهم زبائن مفضلون للتجار، كما يفصح عن عددهم الكبير في البوكمال لأسبابٍ متعددةٍ دفعتهم إلى القدوم من بلدهم برفقة العاملين في صفوف التنظيم، كالهرب من الحرب أو البحث عن فرصٍ للعمل في مدينةٍ مستقرةٍ نسبياً.

وما زالت عمليات مهاجمة الحواجز والانشقاق أو الفرار من صفوف التنظيم تجري في شوارع البوكمال. وكان أكبرها -كما ينقل البعض- عملية انشقاق منتصف الشهر الجاري، وقد فرض التنظيم بعدها حظراً للتجوال استمرّ لمدة أربع ساعاتٍ ونصف، استجلب خلالها أسلحةً ثقيلةً وقام بحملة دهمٍ وتفتيشٍ لمنازل المدنيين. وقد تركزت الحملة في حيّ طويبة، الذي يعتقد القادة المحليون للتنظيم أنه ملجأ الفارّين والمناوئين له؛ الاعتقاد الذي تعزز مع بيانات خزعل السرحان، قائد «جيش سوريا الجديد»، بعد سيطرة الأخير على معبر التنف الحدوديّ منذ شهرين، بدعمٍ من طيران التحالف. وقد اعتقلت قوى التنظيم -بحسب إعلاميين محليين- ما يقارب الخمسمائة شابٍّ بدعوى البحث عن خلايا مرتبطةٍ بالسرحان الذي تبنى عملياتٍ ضد التنظيم قام بها مجهولون.

وبالتزامن مع حملات التفتيش والاعتقال بعد كلّ انشقاقٍ أو هجومٍ على حاجزٍ في البوكمال، يرسل التنظيم مفخخاته باتجاه التنف. وقد سقط العشرات من قوات «جيش سوريا الجديد» بين قتيلٍ وجريحٍ في مفخخةٍ أرسلها التنظيم منتصف الشهر الجاري، كان أكثرهم من أبناء المدينة، على أن الأهالي لم يستطيعوا إقامة مراسم العزاء بأبنائهم خوفاً من انتقام التنظيم. وقد استُعمل السلاح الكيماويّ ضد جيش سوريا الجديد، بحسب ما أعلن الأخير؛ بينما استقبل الأهالي بترقبٍ تسريباً منقولاً عن السرحان يقول فيه إن دخوله المدينة سيكون في رمضان بعد أيام، رغم أن الجميع بات يدرك تواضع عدد قواته، خاصّةً بعد المفخخة التي سقط فيها أربعون شخصاً بين قتيلٍ وجريحٍ بحسب أحد الإعلاميين (يصل الرقم إلى خمسةٍ وستين قتيلاً بحسب أحد أقرباء القتلى في المدينة).

ينظر البعض إلى عمليات الفرار أو مهاجمة حواجز التنظيم في البوكمال على أنها فاتحة المصائب التي يتحمل نتائجها المدنيون بالدرجة الأولى، في حين تبقى قوات السرحان وغيره بعيدةً عن انعكاساتها، وينظر إليها البعض بحماسٍ مصحوبٍ بإعجابٍ وثقةٍ بالسلاح الأمريكيّ. وبالتوازي مع ذلك بات أهالي البوكمال يدركون مدى أهمية مدينتهم للتنظيم، وما قد يحمله إغلاق الحدود في وجهه من إضعاف «دولته»، إن لم يكن سقوطها، بينما يبدو التحالف الدوليّ، وعلى رأسه أميركا، في سباقٍ غير معلنٍ مع التنظيم لانتزاع المدينة من قبضته؛ فهل سيكون للأهالي دورٌ في هذه العملية؟