ما كان لأكثر المتشائمين من فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية أن يتخيلوا أنه سيحقق فعلاً بعضاً مما وعد به في حملته الانتخابية من قراراتٍ فضائحية. لكن الرجل بدا متحمساً جداً لتوقيعه المعقّد الذي ذيل به عدداً من القرارات من شأنها أن تؤثر على حياة ومصير ملايين الناس داخل الولايات المتحدة وخارجها.

فكما ألغى، بشطبة قلم، قانون الضمان الصحيّ الذي يعتبر درة تاج إنجازات الرئيس السابق باراك أوباما، لم يرتجف قلمه وهو يوقع على حرمان مواطني سبع دولٍ إسلاميةٍ من تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة. ولزيادة جرعة العنصرية في هذا القرار، استثنى منه المنتمين إلى أقلياتٍ مسيحيةٍ في تلك البلدان. وهكذا نسف الرجل إحدى أهم قيم العصر الحديث، بعدما تكرست على مستوى الخطاب على الأقل.

جاءت النذر الأولى لهذا المسار في خطاب القسم، عندما جلد ترامب الإدارات الأميركية السابقة، وكأنه يقوم بـ«حركته التصحيحية»، وأطلق شعاراً لا يليق بالدولة العظمى التي سيرأسها في السنوات الأربع القادمة: «أميركا أولاً!»، كما لو كانت هذه إحدى الدول النامية المحكومة بدكتاتوريةٍ فاسدةٍ تسعى إلى الاختباء وراء ديماغوجيا وطنيةٍ جوفاء.

لا أدل على النزعة الدكتاتورية لدى ترامب أكثر من برمه الشديد بالصحافة. فقد بلغ الأمر بأحد مستشاريه حدّ القول إنه على الصحافة أن تخرس، وأن تسمع بأكثر مما تتكلم! وذلك في مواجهة الموقف السلبيّ الذي اتخذته الصحف الأميركية من الرئيس الجديد وتوجهاته اليمينية وعدم تحرّجه من إطلاق الأكاذيب.

إضافةً إلى إلغائه الضمان الصحيّ وإجرائه العنصريّ في حقّ المسلمين، بمن فيهم أولئك الذين يملكون حق الإقامة في الولايات المتحدة، أمر ترامب ببناء السور الذي سبق وتوعد به على طول الحدود مع المكسيك، مطالباً الجارة الفقيرة بتحمل تكاليف البناء. وهو يتعامل مع موضوع المنطقة الآمنة التي وعد بإقامتها في سوريا بمنطق البزنس، فهدفه المعلن منها هو التخلص من اللاجئين السوريين الفارّين من جحيم الحرب، ووقف تدفق المزيد منهم، إضافةً إلى أنه يريد تحميل الأعباء المالية لإقامة المنطقة الآمنة للمملكة السعودية. من المحتمل أن الحرب الفعالة على تنظيم داعش التي توعد بها، وأمر البنتاغون بالانتهاء من وضع خطتها في غضون شهرٍ واحد، ستخضع للمنطق التجاريّ نفسه بحيث يعمل على تحميل كلفتها لدولٍ أخرى.

وكما بدأ ترامب تحويل وعوده إلى إجراءاتٍ عمليةٍ بسرعةٍ قياسية، كذلك نمت المقاومة الاجتماعية والمؤسّسية ضده بسرعةٍ لافتة. مظاهراتٌ كبيرةٌ تندد به أمام البيت الأبيض، وفي مختلف المدن الأميركية، النيابة العامة توقف قراره المتعلق بحجب تأشيرات الدخول للمسلمين، محامون يعتصمون في المطارات الأميركية لمساعدة من يتعرّضون لمنع الدخول بموجب الفرمان الترامبي العنصريّ، مليونا توقيعٍ على بيانٍ يطالب بإلغاء زيارة ترامب إلى بريطانيا، سلسلة مقاهي ستاربكس الشهيرة تقرر توظيف عشرة آلافٍ من اللاجئين السوريين في فروعها المنتشرة عبر العالم، للسنوات الخمس القادمة..

هل هي مؤشراتٌ مبكرةٌ إلى أن الترامبية ستنكسر أمام هذه الموجة، فإما أن تتعقلن أو تتجه إلى نهايتها بطريقةٍ أو بأخرى؟ أم أنها ستترسخ ويمتد تأثيرها إلى دول أخرى، كما هي الحال فعلاً في عددٍ من الدول الأوروبية التي تشهد صعوداً مماثلاً لليمين العنصريّ ذي الخطاب الشعبويّ، فتتعزز الترامبية بها أكثر؟ لا أحد يملك جواباً الآن. لكن المؤسف أن مقاومة الترامبية من خارج الولايات المتحدة هي أقرب ما تكون إلى العدم، مقابل مقاومةٍ داخليةٍ نشطةٍ من المجتمع والمؤسّسة الحاكمة الأميركيين.

ربما الصين هي الاستثناء الوحيد. فهي تتحدث اليوم عن طموحها لقيادة العالم، بعد تخلي «الآخرين» عن هذا الدور، ويصرّح قادتها العسكريون أن اندلاع حربٍ مع الولايات المتحدة أصبح في نطاق الاحتمال الواقعيّ، لا المتخيل.

الخلاصة، يبدو أننا سنحبس أنفاسنا كثيراً في الفترة القادمة. فليس مما يدعو إلى الاطمئنان أن يحكم أقوى دولةٍ في العالم رجلٌ يشبه معمر القذافي.