- الرئيسية
- مقالات
- رأي
انقلاب حافظ الأسد.. استنساخ الاستقرارات المزيفة
تمثّل الانقلابات العسكرية الحدث السياسي الأكثر شيوعاً في تاريخ سوريا المعاصر، بل إنّها فعلياً تمثّل المحدد الأساس لديناميات السياسة السورية منذ استقلالها عن فرنسا.
ومع أنّ أكثر من ثلثي تاريخ سوريا "الانقلابي" دُمغ باسم آل الأسد، عبْر حافظ الأسد وابنه بشار، ليكون آل الأسد قد حكموا البلاد 48 عاماً، في مقابل 23 عاماً قبلها شهدت نحو سبعة انقلابات مثبتة، وعدداً من المحاولات الفاشلة، من ضمنها ثلاث سنوات خضعت فيها سوريا لحكم جمال عبد الناصر أيام (الجمهورية العربية المتحدة).
يوحي هذا بالاستقرار، بعد فترة اضطراب، غير أنّ انقلاب حافظ الأسد عام 1970، الذي تمر ذكراه هذه الايام، لا يقارب الاستقرار إلا من زاوية انعدام وجود المجتمع في السياسة، وتآكل الحقوق، والتدليس على التاريخ الذي يقول إن انقلاب 1970 لم يكن الأخير، فالأسد انقلب داخل نظامه على نظامه غير مرة، ولطالما كان الهدف هو تثبيت الانقلاب المؤسِّس؛ والذي دعي بـ"الحركة التصحيحية" من ضمن نسق معتاد لدى الطغم العسكرية، بإطلاق تسميات مزيفة وفضفاضة على مشاريعها السلطوية؛ لتكريس نزعة الحكم الأبدي، تحت شعارات ذات منحى فاشي، يزوّر الفشل المستقر اقتصادياً، والهزائم المتكررة عسكرياً كإنجازات تاريخية تسوّغ القمع الوحشي الذي يصبح هو الضرورة الوحيدة العاملة في بلاد تحكم باسم الوهم، وتمجيد الوهم، وقتل كل ما يمسّ قداسة هذا الوهم.
ثمة مفصل رئيس في تحليل المرحلة الزمنية التي عاشتها -ولا تزال في الواقع- سوريا تحت حكم حافظ الأسد، وهو أنّ جلّ ما تقدمه آلة البروباغندا النظامية، إن جاز التعبير، ملفّق ويستند إلى عملية شطب منظمة للفترات السابقة على حكمه، وهي عملية تقوم على أساس توفيق قسري دائم بين الحاجات الآنية لنظام الأسد بنسختيه، وبين صورة سوريا قبله.
وفي هذا المنوال السياسي، فإنّ الدولة – النظام، وعلى مدى يمتد لنحو نصف قرن، كانت تعمل في كلّ أجهزتها على طريقة "وزارة الحقيقة" في رواية جورج أورويل الشهيرة (1984)- في إعادة تزوير يومية للتاريخ، من أجل مطابقة مستمرة لما يصدر عن "الأخ الأكبر"، مع تبدلات الواقع الجيوبولتيكي والاقتصادي، بل وحتى في التفاصيل اليومية التافهة، بحيث يظل ما يفعله -قولاً وعملاً- هو الحقيقة الوحيدة.
نجح حافظ الأسد -بمعايير الحكم في جمهوريات الشرق الأوسط ذات البنية العسكرتارية- في الحصول على صورة الزعيم القوي لبلد مستقر، يحوز نفوذاً إقليمياً؛ غير أنّ هذه المعايير بذاتها وبطبيعتها، لم تكن في يوم من الأيّام، قريبة من مفهوم الحاكمية المنتجة لمثل تلك التعريفات عن القوة والنفوذ والاستقرار؛ والواقع أنّ الأسد كان في صورة حكمه يمثل انتقالاً متكرراً بسذاجة راديكالية، في عملية نسخ ومطابقة شوهاء لأنماط حكم في دول كانت قد مرت بتجارب مشابهة، ويمكن تلمّس عدة أطوار لنماذج المحاكاة الأسدية بعد انقلاب 1970، فهناك النموذج الناصري في أوائل السبعينات؛ والذي استمر حتى انتفاضة جماعة الأخوان المسلمين ومذابح حماة في مطلع الثمانينات، ويليه تبني نموذج ديكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، والذي تزامن مع الاستغراق في التحالف مع الاتحاد السوفيتي، وصولاً إلى نمذجة حكم يشبه جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية بعد تفكك الاتحاد، وهذه كانت تملك ميزة ضمان الحكم الوراثي، وهو الهوس الأساس الذي استبد بنظام الأسد خلال التسعينات، عبر تنصيب ابنه البكر باسل وصيّاً على الدولة، ثم عبر عملية تنصيب إسعافية لبشار، بعد أن قتل شقيقه بحادث سيارة.
لا يمكن الجزم بأنّ نوايا حافظ الأسد في بدايات انقلابه على رفاقه بحزب البعث، كانت تضمر كل هذه التحولات، لكنّ البيئة السياسية في سوريا والإقليم، كانت تتيح آنذاك إمكانية تصور حكم أبدي، ويبدو أنّ ما حدث لاحقاً كان جملة استجابات آنية لتغيرات سياسية وإستراتيجية، وهو واقع يتماشى مع الوعي السياسي البدائي الذي حكمت به سوريا منذ 1958، والذي قطع مسار تطورها الطبيعي -الرأسمالي- تحت شرط تحويلها من دولة إلى وظيفة قومية.
وليس صعباً بكل الأحوال، إيجاد مركز الفالق الجيوستراتيجي الذي قسم سوريا إلى واقعين متباينين، الأول محلي تفاقم انغلاقه حول ذات "القائد الضرورة"، المنتصر دائماً، تسوسه آلة تلفيق لا تتوقف عن تصوير سوريا كدولة مركزية مهابة الجانب إقليمياً، وكرقم صعب دولياً؛ في حين أن الواقع الثاني كان يشير بالتضاد إلى دولة متخلفة فقيرة، شبه معزولة، حوصرت اقتصادياً غير مرة، وراعية للإرهاب، ينحصر نفوذها في إدارة علاقات أمراء الحرب في لبنان، وارتكاب المذابح ضد السوريين واللبنانيين والفلسطنيين، في سوريا ولبنان، ولا يعدو دورها العربي سوى أن تكون بديلاً في ثلاثية عربية تضمّها إلى مصر والسعودية؛ بعد أنّ أخرج صدام حسين العراق من دائرة الفعل والتاريخ.
ومع أنّ صورة الواقع الثاني كانت تتسرب إلى الداخل، برغم كل محاولات النظام في إبقاء سوريا موصدة في وجهه، فقد كانت لعقلية الأسد البدائية قدرة تلقائية على تجاهل مثل هذا التسرّب، ومتابعة اختراع سوريا الموهومة، وهذه أيضاً إحدى استنساخات حافظ الأسد من صديقه (كيم إيل سونغ)، زعيم كوريا الشمالية "المؤسس"، والذي يتشاطر الآن من حجرة تحنيطه، مع الأسد في قبره وضعية "القائد الذي لم يمت".
هناك جذر بالطبع لكلّ هذا، ولربما سينفع البحث سريعاً في المنحى الزمني لصعود الأسد في تاريخ سوريا بإيضاح بعض الأسس التي قامت عليها دولته القاتلة. وعلى عكس ما تصفه البروباغندا الرسمية، لم يكن حافظ الأسد عسكريا ذا شأن، وهو في الواقع نال تصنيفاً سيئاً خلال دراسته في مصر، وثمة تقارير غربية، نقلاً عن تقييمات رسمية آنذاك، تشير إلى افتقاره لقدرات القيادة والتخطيط، وهذا ليس مستغرباً من شخص هزم عملياً في جميع المعارك التي خاضها كقائد عسكري -نظامي- منذ حرب 1967 إلى حرب لبنان 1982.
ويتردد أنّ هذه الخصيصة، هي ما دفعت معلمه وراعيه الأول صلاح جديد إلى تقديمه في هرمية الحزب، إبان سيطرته الفعلية على البلاد بعد انقلاب 1966، باعتباره "لا يمثل تهديداً"، سواء لناحية إمكاناته المحدودة -في تقديرات جديد- أو لولائه الطائفي.
وحافظ الأسد أيضاً مدمن على الانقلابات، وقد شارك فعلياً في كل الانقلابات البعثية الداخلية؛ ومع أن دوره كان صغيراً في معظمها، إلا أن اللحظة الفارقة كانت حين حاصر سليم حاطوم كلاً من صلاح جديد ونور الدين الأتاسي في السويداء عام 1966، وهدد بقتلهما، ليقوم الأسد حرفياً بتعفيش حماية مشايخ الدروز للرجلين -باعتبارهما ضيفان- وإعلان تهديده الشهير بقصف السويداء، إذا لم يطلق حاطوم سراحهما، وهو ما حدث لاحقاً. والظاهر أن هذه الحادثة رسخت صورة الانقلاب السهل على حكم صلاح جديد، الذي كان يتسم هو الآخر بسذاجة التثوير الاشتراكي الدائم، والدولة العقائدية الفقيرة.
ثمة جذر ديني أيضاً، فالقشرة العلمانية كانت غطاء لنزوع طائفي لا يمكن تجاهله، وما توصف بمذبحة الضباط السنة الـ400 بعد انقلاب حاطوم، مهدت لهزيمة 1967 التي شقت حلف الأسد – جديد، وقادت الى انقلاب 1970، والذي كانت طائفية رفعت وسلوكه الشائن أحد ركائزه؛ بدفع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والأمين العام لحزب البعث -وكلها مناصب صورية بالمناسبة- نور الدين الأتاسي إلى الاستقالة منها دفعة واحدة، لتشغر قيادة البلد فجأة، وتخفق محاولة صلاح جديد في تدارك الموقف بإقالة حافظ الأسد، وينتهي الأمر بالرجلين، جديد والأتاسي، في سجن المزة رفقة شركاء حاليين وسابقين كان جديد قد انقلب عليهم.
ثمة تفصيل حاسم في مسار سوريا بعد 1970، حكم حافظ الأسد كان كارثة اقتصادية: تفلسف القوة بالعزلة وانعدام الدين، وترييف الدولة ومعاداة الرخاء المديني العريق في سوريا، وهو استمرار لتخبط حكم البعث منذ انقلاب 1963، الذي أسس للفقر الممجد باسم أمان المذابح.
حافظ الأسد في الأعلى عندما كان طالباً بالكلية الجوية بحلب