مرّت قرابة خمس سنواتٍ على بداية المقتلة السورية الكبرى، ولم يشبع النظام الكيماويّ من دم السوريين. تغيّرت الظروف، منذ 15 آذار 2011، في سوريا ومحيطها الإقليميّ وفي العالم كله، وما زال القاتل مستمرّاً في قتله بهمّةٍ لا تكلّ. ولم يوفّر سلاحاً بحوزته إلا واستخدمه، بل استورد المزيد لتدمير سوريا على رؤوس سكانها الذين شرّد أكثر من نصفهم وقتل فوق ثلاثمئة ألفٍ، إضافةً إلى المعوقين الذين قد يتجاوز عددهم المليون ولا أحد يهتمّ بعدّهم.
كلّ ذلك والدول القادرة على قطع يده وكفّها عن القتل لا تكتفي بالتقاعس عن ذلك، بل تظهر حرصاً شديداً على منع إسقاطه. ليس فقط روسيا وإيران اللتين اصطفتا إلى جانبه، منذ اللحظة الأولى للثورة، حليفتين مخلصتين دعمتاه بكلّ ما يلزم لينتصر على سوريا والسوريين، بل كذلك تلك الدول التي اجتمعت في منتدى "أصدقاء الشعب السوريّ"، من دولٍ عربيةٍ واقليميةٍ زوّدت فصائل المعارضة المسلحة ببعض المال والسلاح، وصولاً إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
وإذا كان الأب المؤسّس للنظام الكيماويّ قد مرّر مجزرته التأسيسية في حماة وحلب وجسر الشغور ودير الزور وسجن تدمر، بين العامين 1980-1982، بصمتٍ، فقد عزونا ذلك إلى الشروط الدولية لعصر الحرب الباردة، وضعف قدرة الإعلام النسبية، حينذاك، على نقل وقائع المجزرة إلى الرأي العام العالميّ، وإلى إسلامية التمرّد وعنفه المسلح منذ البداية. ولم يتوقع أحدٌ أن ينسحب ذلك الصمت الدوليّ على المجزرة الجديدة التي تفوَّقَ فيها الابن المعتوه على الأب الماكر، في ظروف الإعلام المفتوح و"العالم قرية صغيرة" توحّد شطراه بعد سقوط جدار برلين تحت رايات "اقتصاد السوق" و"حقوق الإنسان" و"مكافحة الإرهاب".
والحال أن ما يسمّى بـ"العالم الحرّ"، خصوصاً، أثبت قدرةً مدهشةً على التكيّف مع فظاعات النظام الكيماويّ التي لم تقلّ مشهديةً عن فظاعات داعش التي وحّدت العالم ضد هذا الأخير. إذا تركنا جانباً البراميل المتفجّرة البدائية التي يلقيها على مدنٍ وقرى آهلةٍ بالسكان وعلى مستشفياتٍ ومدارس وطوابير واقفةٍ أمام أفران، وكذا استخدامه المتكرّر للسلاح الكيماويّ ضد المدنيين، قبل تسليم جزءٍ من مخزونه منه وبعده، تكفي تلك الصور المهولة التي سرّبها "سيزار" لأحد عشر ألف معتقلاً تمّ قتلهم بوسائل تعذيبٍ فظيعة، وعُرضت في عواصم الغرب.. تكفي لاستنهاض أشد الضمائر بلادةً وموتاً.
لكن ذلك الغرب الذي زعم وقوفه إلى جانب تطلعات الشعب السوريّ في الحرية والكرامة، بدلاً من أن يتخذ موقفاً حاسماً يرغم القاتل على وقف القتل (ناهيكم عن السماح بإسقاطه)، اكتفى بـ"إدارة الأزمة" طوال سنواتٍ، ليصل في نهايتها إلى القبول ببقاء رأس النظام نفسه ولو لـ"فترةٍ انتقالية". فأخذ قادة تلك الدول ووزراء خارجيتها يتسابقون في تصريحاتهم بصدد القبول ببقاء رأس النظام لفترةٍ انتقاليةٍ يعرفون أنها لن تبدأ قريباً. بل وصل الأمر بالمستشارة الألمانية حدّ الكلام عن ضرورة الاتفاق مع الأسد لمحاربة داعش. هذا إذا كان هناك أيّ معنىً للفصل بين النظام ورأسه. فالسوريون يعرفون جيداً، من خبرتهم الممتدة لنصف قرنٍ، أن النظام هو الأسد والأسد هو النظام، وهذا ما جعل النظام متماسكاً طوال خمس سنوات، وفشلت كلّ المحاولات المفترضة لاستبدال رأسه بانقلابٍ داخليّ، اغتيال خلية الأزمة على سبيل المثال، وما يدور من تكهنات حول اختفاء علي حبيب.
لا أعرف من الذي يقف وراء ابتكار صفة "القائد الضرورة" للمقبور حافظ الأسد. قد يكون شخصاً أو حزباً ممن يؤمنون بنظرية "الحتمية التاريخية". يعني "القائد الضرورة" وفقاً لهذه الفلسفة الحتمية أن هناك أدواراً "ضرورية" في التاريخ لا بدّ أن يملأها شخصٌ ما. وهكذا كان على سوريا ذات التاريخ الحديث نسبياً أن تنتظر هذا "القائد المقدام" ليحتلّ مكانه في التاريخ ويقوم بتنفيذ ضروراته الحتمية، فيبني "سورية الحديثة" من لا شيء! سورية التي سيحوّلها من جمهوريةٍ إلى مملكةٍ سلاليةٍ تختزل البلد في شخصٍ وتفرغه من أيّ داخلٍ مجتمعيّ.
أما بعد اندلاع ثورة الشعب السوريّ والمهارات الباهرة التي أظهرها النظام برأسه المعتوه في ارتكاب فظاعاتٍ غير مسبوقة، فقد وجد فيه الغرب أيضاً القاتل الضرورة الذي لا يمكن استبداله بغيره. فهو يقوم بمهماتٍ قذرة، نيابةً عن حكومات الغرب وتياراتٍ يمينيةٍ عنصريةٍ وأخرى يساريةٍ فيه، لا قبل للرأي العام الغربيّ بتحمّلها. تلك الحكومات والتيارات التي لا ترى في مجتمعاتنا "المتخلفة" إلا فائضاً سكانياً لا أهمية له أو خطراً إرهابياً يتهدّد نمط حياتها ورفاهها الاجتماعيّ ويقلق راحتها.
ليس هذا غريباً على ذلك "الغرب" الذي لا يخجل واحدٌ كزبغنيو بريجنسكي (مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ الأسبق) من استعراض فلسفته المالتوسية الجديدة حين يتحدث، في أحد كتبه، عن أن عشرين في المئة فقط من سكان الأرض يستحقون الحياة.
أين سيجد هذا الغرب منفذاً أفضل من بشار الكيماويّ، ونظامه، لعمل ما لا يستطيع عمله بنفسه؟ إنه حقاً القاتل الضرورة.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذه الحاجة الغربية، "أخلاقياً"، إلى قاتلٍ ضرورةٍ من عيار هذا المعتوه، بل يتجاوزه إلى حاجةٍ سياسيةٍ، هذه المرّة، لدى جميع الطغم الدكتاتورية والسلالية في إقليمنا، سواء تعلق الأمر بنظام السيسي في مصر، الذي يزوّد القاتل ببعض السلاح (الفاسد!)، أو بدولٍ تزوّد فصائل جهاديةٍ مناهضةٍ للنظام بالسلاح، كالسعودية وقطر.
القاتل الضرورة يقوم بمهماتٍ تفوق كثيراً قدراته العقلية.