منذ أن أُطلق الشعار الدامي "الأسد أو نحرق البلد"، قبل أربع سنواتٍ تقريباً من اليوم، ومنذ أن طُبّق بالفعل، لم يتذكر الكثير من أبناء الطائفة العلوية -مع الأسف- أنهم جزءٌ من هذا البلد، وأنّ لهم، بعيداً عن فوّهات النار، حياةً عاديةً كأيّ سوريٍّ، لا بدّ أن لظى الحريق ستمتدّ إليها. ومنذ أن أطلق الشعار كذلك، صُنّف مجرّد المتظاهر عدوّاً لا رحمة في اجتثاثه، أو مخدوعاً لا يصحو إلا تحت سياط التعذيب، في ألطف الأحوال. وعلى الطرف الآخر، وكما هو معلومٌ، لم تكن لدى أيٍّ من أجسام المعارضة، ورغم شكليات خطابها المتجاوز للطائفية، محاولةٌ جديةٌ حقيقيةٌ لبناء جسور ثقةٍ مع المجتمع المؤيد للنظام، في انقيادٍ غير مسؤولٍ لشعارات المتشدّدين في هذه المعارضة. وعلى الأرض، كان آكل قلوب الجنديّ الميت -ضحيةً لآلامه السابقة، وفق تبرير البعض- وغير ذلك من تصرّفات بعض الثوار الطائشة، ما زوّد إعلام الأسد، بجزأيه الرسميّ والرديف، بكلّ ما يلزم لتغذية المشاعر الطائفية لجمهوره، قبل أن تتطوّع داعش لتؤدّي هذا الدور بمنتهى النجاح. ولتصدق دعاوى النظام أمام مؤيديه بأن حربه هي حرب وجود، ولن يتحقق النصر فيها إلا بمزيدٍ من التضحية.
إلا أن الإمكانات الواقعية للنظام كشفت عجزه عن تحقيق هذا النصر، وعن حماية جنوده المنتشرين في القطعات المقاتلة، وعن وقف التردّي المتسارع في الظروف الاقتصادية والخدمية والأمنية كذلك. وقد أدّى هذا العجز إلى تذمّرٍ متنامٍ لدى العلويين، مما يشير إلى دلالاتٍ هامةٍ عن تحوّلٍ في وعي الطائفة العام، الذي أدرك أخيراً أن مأزق الثورة أو "الأزمة" لا فكاك منه، وأن المراهنة على النظام لم تكن رابحة. فيوماً وراء يوم، وخلال سنواتٍ من الحرب، لم تبق لأفضال آل الأسد بقية، وانقلب نعيم الانتماء إليهم، كنسب معنويٍّ، إلى جحيم. ويتضاءل الأمل في أن يرجع الزمن إلى ما كان؛ فلم تعد سلالة الأسد، التي حوّلت الطائفة والنظام والدولة إلى أجزاء تابعةٍ لها، قادرةً أن تؤدّي دورها "الرساليّ" بوصفها الضمانة الوجودية للعلويين في وطنٍ يشكل "السنّة أكثرية فيه". بل إنها تعجز، حتى أثناء دفاع العلويين المستميت من أجلها، عن تحسين شروط هذا الدفاع. "فلماذا تنقطع الكهرباء؟ ولماذا لا تقضي الدولة على الغلاء وتقطع أيدي لصوص المحروقات؟"، تتساءل الأم ويتساءل الأب اللذان أرسلا أولادهما إلى جبهات القتال. ويأخذ البوح الغاضب، بعد جنازة كلّ قتيلٍ، شكلاً من أشكال الاعتراض المنفعل على قيم الموت في سبيل القائد والفداء له، وخاصّةً حين يعجز هذا القائد عن العناية، أو حتى عن تكريم هذا الفداء بما يليق. ليكون السؤال عن جدوى مقتل أبناء الساحل في حلب ودير الزور ودرعا سؤالاً شائعاً، دون أن يكون الرد الإنشائيّ "دفاعاً عن سوريا الأسد" جواباً "بطولياً" كما كان. فليست كلّ سوريا الآن للأسد، وليست له وحده حتى في الأجزاء التي تسيطر عليها قوّاته. ففي كلٍّ منها شركاء لا يتورّعون، في سلوكهم النفعيّ المتهوّر، عن خرق مصلحة المجموع في لقمة عيشه وأمنه وكرامته. ليؤدّي كلّ هذا إلى إضعاف الثقة بهذا الكيان المعنويّ والماديّ الكبير (الأسد؛ النظام؛ الدولة) لحساب ثقةٍ/ثقاتٍ أخرى أقلّ شأناً وقدرةً على الصمود. فمن أسد سوريا، منطلق القوّة والعراقة والدوام، تحوّل الوعي إلى نمر الضيعة –سهيل حسن وأمثاله- الذي لن يتوانى عن الانعطاف بدراجته النارية –كما ظهر الحسن بالفعل في أحد المشاهد- نحو الضيعة للتمترس والذود عن الأهل والعرض وأبناء العمومة، في اللحظة المصيرية القادمة لا محالة وفق الإيمان المتشكّل حديثاً في أنفس مؤيدي الأسد من العلويين. ولكن، إلى أن تحين تلك اللحظة، لن يغيّر هذا الإيمان من سلوكهم المنقاد إلى الحرب، في استسلامٍ يائسٍ للأقدار.
تسأل سيدةٌ علويةٌ طيبة القلب ابنها الضابط، العائد في إجازةٍ، عن تفسيرٍ لمقتل أطفالٍ ونساء تحت القذائف والبراميل في المدن والقرى الثائرة، فيجيبها أن ذلك يحدث بسبب تضليل الجواسيس المحليين من أبناء هذه القرى أنفسهم، فهم من يزوّد غرف العمليات بإحداثيات الأهداف. لا تقتنع الأم كثيراً بهذا التفسير. وتوصي ابنها أن يتجنّب قتل أحدٍ، أيّ أحد. وتلعن في سرّها، للمرّة الأولى، بشار ثم حافظ الأسد.