- الرئيسية
- مقالات
- رأي
العلمانية... ترف فكري أم حاجة مجتمع؟
كتب الكثير من المفكرين أن التيارات السياسية العربية بكل تلاوينها، اليسارية والقومية والليبرالية وحتى الإسلامية، لم تنشأ إلا استجابة لسؤال طرحه الغرب وليس المجتمع، وكذلك مختلف الشعارات المرتبطة بهذه التيارات. ومن هذه الملاحظة يمكن أن نناقش أبرز القضايا التي يتم تداولها اليوم بين أوساط المثقفين السوريين، وخاصة في المنافي والمهجر: العلمانية، كردٍّ مباشر على حالة التطرف التي تشهدها البلاد.
تعاني بلادنا من حالة قصوى من متلازمة الاستبداد-التطرف اللذين يحصد كلاهما أرواح البشر بلا حساب، وإن بنسب متفاوتة، فالأرجحية الكبرى للاستبداد ونظامه. لكن العلاقة بينهما مترابطة، إذ تؤسس الأنظمة الشمولية الأرضية لولادة آليات التطرف في مواجهتها. لأن الاستبداد، بما يشمل من مؤسسات رعب وهيئات هامشية ملحقة به، يخنق كل أشكال الحياة العامة السياسية والثقافية وغيرها من أشكال التجمع والنشاط البشري، بشكلٍ لا يبقى معه أمام الناس للتعبير عن وجودهم سوى نبش الماضي والتجمع حول عقائد وأفكار تغلف حالة السحق والضعف، وتولد الحالة النظيرة للاستبداد بشكل طبيعي وبالشكل نفسه، وهو ما يعبر عنه بحالة التطرف.
ففي بلدنا سورية، على سبيل المثال، لم يوفر النظام عبر سنوات طويلة أي وسيلة لاستكمال عملية التكميم وصولاً إلى الموات، ابتداء من الحياة السياسية وصولاً إلى تفكيك الروابط الاجتماعية، وحتى دور العبادة لم تسلم من سيطرته. ومع اندلاع الثورة، التي كان لها الفضل الكبير في كسر قشرة الرعب، ظهرت إلى السطح المشاكل الكثيرة التي كان النظام يدفنها. وبمواجهته العنيفة لكل الحلول أجبر الناس على حمل السلاح دفاعاً عن وجودهم، مما مهد الطريق أكثر لظهور وتبلور أشكال عنفية متطرفة في مواجهته. وأمام تلك الوقائع المرعبة من بطش النظام وتوحش التطرف يطرح بعض المثقفين والمهتمين بالشأن العام العلمانية كإحدى وسائل مواجهة التطرف؛ بمعنى فصل الدين عن الدولة، والمساواة بين المواطنين.
وبالعودة إلى تاريخ العلمانية نلحظ أنها نشأت استجابة لوضع عاشته أوروبا التي عانت الكثير من سيطرة الكنيسة على الدولة والمجتمع، ابتداء من صكوك الغفران حتى تعيين ومباركة الأباطرة والملوك، وأدخلت معظم البلاد الأوروبية في حروب دينية دامت طويلاً وأزهقت حياة الكثيرين، إضافة إلى صعود طبقة جديدة (البرجوازية) تبحث عن دور ومصالح. هذا كله وَلَد لحركات الإصلاح الديني أولاً، ومن بعدها لأفكار التنوير، حوامل اجتماعية بشرية تتناقض مصالحها مع السلطات والكنيسة، وصولاً إلى الثورات الأوروبية وذروتها الفرنسية التي طرحت شعارات الحرية والمساواة. ولم تعلن علمانية الدولة في فرنسا بشكل نهائي إلا عام 1905، وتعدّ أكثر أشكال العلمانية حدية في كل أوروبا.
كان لتوسع المشاركة الشعبية عبر الآليات الديمقراطية في صنع القرار ومراقبته في أوروبا، حيث المساواة أمام القانون تكفلها كافة الدساتير لكل مواطنيها، إضافة إلى الحريات الشخصية والعامة، دور كبير في تخفيف حدة العداء القديم بين الدولة والكنيسة. إلى درجة أن تكريس احدى الدول الأوروبية في دستورها أن الدين الرسمي للدولة هو المسيحية الكاثوليكية، وثانية هو الأرثوذكسية، أمر لا يثير مشكلة لدى رجالات الدولة ومواطنيها.
ما نشهده في بلادنا، كغيرها من الأنظمة الشمولية، هو الهيمنة الكاملة للسلطات الأمنية والمذهبية على كافة الفضاءات البشرية، ومنها الفضاء الديني الإسلامي الذي يشكل الموروث الثقافي للغالبية، فقد ألغت السلطة أي استقلالية لهذا الفضاء، مما منعه من أي تطور ذاتي يمهد لحركات إصلاحية كما حدث في القرن التاسع عشر (الأفغاني؛ عبده؛ رضا) وغيرهم.
أمام تلك الوقائع، حيث الهيمنة الاستبداية التي لا تناسب إلا التطرف، تبدو العلمانية بشكلها المطروح والملتبس في المجالين السياسي والاجتماعي، مفهوماً مجرداً من دلالته الجوهرية التي تأسست عبر معركة التحديث التي عاشتها المجتمعات الغربية، وتظهر كأيديولوجيا أكثر منها كحالة إجرائية لا تميز الناس وفق أديانهم ومذاهبهم، وترفاً فكرياً لا يقرأ الوقائع والتاريخ بشكلهما المعقول، وتجلت في العداء السافر للدين الإسلامي وللمسلمين مما وضعها في مكان قريب من أنظمة الاستبداد التي ادعت أنها علمانية، بينما هي أنظمة بلا دين ولا دنيا. وبالتالي فإن الأكثر إلحاحاً في سورية هو السعي إلى بناء دولة (وهي الشرط الأساسي للعلمانية) متحررة من سلطة المخابرات، بحيث يتحرر المجتمع من هيمنتها المطلقة، مما يسمح بتقدمه وتطور منظماته السياسية والمدنية بعيداً عن شروط الاستبداد، ويمكّنه من إيجاد الحلول السليمة للمشاكل التي تواجهه.