الرقة اليوم (3)
تحت النار

AFP

بانتقال المعارك بين داعش و«قوات سوريا الديمقراطية» إلى الأحياء الشرقية والغربية من مدينة الرقة، مطلع حزيران الجاري، دخل 100 ألف نسمة تقريباً، العدد الحالي لسكان الرقة حسب ناشطين، في طور جديد من المعاناة ومشقة العيش اليومية، مضافة إلى الرعب والهلع والموت المحمولة مع أعمال الحرب التي لا تدخل أحوال المدنيين في حسابات طرفيها.

لا يجد الناس الكثير ليفعلوه في هذا السجن الخطر. ترك ساكنو الطوابق العليا بيوتهم للإقامة في بيوت أرضية أو أقبية، وتقاسمت أسر عدة منزلاً واحداً يظنونه آمَنُ من منازلهم وقت الغارات الجوية والقصف المدفعي والصاروخي. قبيل الإفطار خلال رمضان قتل العشرات، وقتل مثلهم أثناءه وبعده، إذ لا يراعي القصف برنامج الصائمين. عندما يُسمع انفجار أو تحليق طائرة يتوقف الجميع عن الأكل والشرب في صمت رهيب تقطعه تكهنات بالأماكن المستهدفة. قتل أمس، بغارة لطيران التحالف وسط المدينة، معلم الرياضة السابق عبد الفتاح المربد، وابنه وليد، وثلاثة من أشقائه، وزوجة وابنا أحدهم. ثمانية من عائلة واحدة قضوا في الوقت نفسه. لم يكن أي منهم عضواً في تنظيم داعش ولم يجدوا أي سبيل للخروج من المدينة. كذلك هي حال آخرين قتلوا ويقتلون كل يوم في الرقة التي قررت داعش جعلها «موصل أخرى» نكاية بكل شيء وتعزيزاً لصورة متخيلة لديها عن نفسها، وبالطبع ليس القتلى من المدنيين «العوام» سوى مادة قد تلزمها في إصداراتها الدعائية.

قد يكون القتلى أوفر حظاً منا نحن الأحياء، ومن جرحى ميؤوس من شفائهم، حسب ما يقول علي –اسم وهمي- الشاب الغاضب من داعش ومن التحالف: «الجثث مرمية بالمشافي، وجرحى مقطّعين ما حدا يعرف منو جابهم وشو راح يصير بيهم». ثلاثة مشاف فقط تعمل اليوم، من أصل ثمانية قبل شهرين، وهي تؤدي وظائف إسعافية هامة رغم افتقارها إلى المقومات الأساسية نتيجة مغادرة معظم الأطباء المختصين وتوقف بعض التجهيزات عن العمل ونقص -إن لم يكن انقطاع- الكثير من الأدوية والمستلزمات. تنقل معظم الحالات الحرجة والمتوسطة إلى خارج الرقة بالقوارب أو العبّارات المائية بين ضفتي نهر الفرات جنوب المدينة.

في الأسابيع الأخيرة تراجعت قدرة داعش على القمع، ربما لانشغالها بالمعارك، أو لمغادرة قادتها الأشد قسوة، أو بسبب تعليمات واردة من العراق تناقلتها شائعات تحدثت عن «إبطال الحدود» لأن المدينة صارت «دار حرب». طبعاً ما تزال وقائع إعدام متهمين بالتجسس تسجل بين حين وآخر، وما زال التنظيم يعاقب كل من يحاول الهروب من مناطق سيطرته.

في صلوات التراويح يخطف شرعيو داعش، من جامع إلى آخر، مكبرات الصوت لإلقاء خطب قصيرة يحضون الناس فيها على الجهاد وعلى الاستمرار في التمسك بتعاليم دينهم «إن انحازت الدولة عن الرقة»، من غير أن يجاملهم بالتأييد أحد مثلما كان يحدث سابقاً. ولوحظ، في الأسبوعين الأخيرين، تناقص كبير في أعداد المصلين، لتناقص عدد السكان إلى النصف، وارتفاع قدرة من تبقى على تجنب الصلوات الإجبارية وفق طريقة داعش. يبوح بعض الدواعش المحليين الأكبر سناً لأقاربهم ولأصدقاء سابقين بورطتهم، وبأنهم أخطأوا في حق الناس، وبأنهم يائسون ليس لهم منقذ، خاصة مع التحدي والرغبة في الانتقام التي يلاحظونها في العيون.

تتسرب الأخبار ويتناقلها الناس من مصادر مختلفة، منها أجهزة الاستقبال الفضائي التي أعيد تركيبها سراً في قلة من البيوت، وتتضارب الشائعات في الأحاديث اليومية، من خطط انسحاب وشيك يجد الناس الرقة بعدها بلا دواعش فجأة، إلى مقاومة حتى النهاية، خاصة مع مدد مقاتلين من العراق وأنفاق وكمائن وتفخيخ ومفاجآت أخرى للمهاجمين أعدتها داعش.

تتناول شائعات أخرى شؤون الخبز خلال الأيام القادمة، وقد غذّاها توزيع داعش كميات طحين محدودة على الأهالي: «فرن الفردوس راح يسكّر»... «داعش جابت مازوت»... «ما ظل ولا نقطة مازوت بالرقة»، وغيرها. ما يزال فرنا خبز يعملان في المدينة بشكل معقول حتى الآن، ولم تشهد الأسعار قفزات إضافية سوى في الوقود نتيجة انقطاعه أو ندرته، إذ توقفت معظم المولدات الكهربائية الاستثمارية العاملة في الأحياء، وخصص ما تبقى من المازوت لدى القلة لتشغيل مولدات صغيرة تكفي بعض البيوت المتجاورة لشحن أجهزة الموبايل والمصابيح وتشغيل أجهزة التبريد، خاصة لمياه الشرب التي انقطعت نهائياً منذ أيام، فاضطر الناس إلى استعمال الآبار القديمة أو الصهاريج الصغيرة الجوالة التي توزع مياهاً دون تصفية من النهر.