الديمقراطيون الجدد

غابت الديمقراطية عن الفكر السياسي العربي بشكل عام، والسوري خصوصاً، مع بداية حكم الأحزاب التي رفعت القومية كأيديولوجية شمولية، منذ أواخر خمسينات القرن العشرين، وتحديداً مع تجربة الوحدة التي لم تدم طويلاً، والتي ربما كان أحد أهم أسباب انهيارها غياب الحريات العامة.

بالطبع لم يقتصر هذا الغياب على الأحزاب القومية التي وصلت إلى السلطة، مثل الناصرية والبعث، وإنما شمل من كان خارجها، أو متحالفاً معها، ولا سيما الأحزاب اليسارية والشيوعية منها خصوصاً.

إذ كان يُنظَر إلى الديمقراطية على أنها آلية برجوازية للسيطرة على الكادحين (العمال والفلاحين)، وأداة في يد الطبقات البرجوازية للوقوف أمام الطليعة الثورية ومنعها من نقل الوعي الثوري إلى تلك الطبقات وتثويرها بغية الانقلاب على سلطة البرجوازية وإقامة سلطة الطبقات الكادحة، أو ما يعرف بدكتاتورية البروليتاريا، وهي التعبير الأكثر انتشاراً في أدبيات ووثائق الأحزاب اليسارية والشيوعية.

لا يلغي هذا التعميم وجود نويات صغيرة في الأحزاب، إضافة إلى بعض الشخصيات التي، بعد مراجعات طويلة، واستناداً إلى تراثها الماركسي اللينيني، وجدت في مقولة لينين: «الديمقراطية هي أقصر الطرق نحو الاشتراكية» مبرراً لمقاربة جديدة للديمقراطية، ولو كانت البداية غائية، أي لأنها تخدم القضية الكبرى وهي الاشتراكية، الغاية والمآل، حيث السعادة الكبرى والنهائية للطبقات الكادحة، والتي تماثل جنة المؤمنين.

أنتج هذا الاقتراب من الديمقراطية، مع نهاية السبعينات، حالة جديدة لدى بعض التيارات والشخصيات الوطنية والشيوعية، التي جعلت من الديمقراطية محوراً لتفكيرها ومحفزاً لنشاطها، وعبرت عن نفسها عام 1980 في صيغة التجمع الوطني الديمقراطي الذي طرح صيغة التغيير الوطني الديمقراطي، ومن الشخصيات المرحوم الياس مرقص الذي كان من أوائل المثقفين السوريين الذين اعتبروا قضية الديمقراطية الشرط الأساسي لنمو وتطور المجتمعات العربية، ومعروف أنه أعلن في تأبين المرحوم ياسين الحافظ: «نريدها ديمقراطية، وديمقراطية حاف!».

وذلك في معرض رده على الصيغ الشمولية التي كان يتزين بها أصحاب مقولات الديمقراطية الاشتراكية، وفي أحسن الأحوال الديمقراطية الشعبية، كغطاء لأفظع الأنظمة الدكتاتورية في العالم، ومنها النظام السوري، الذي استوحى جزءاً كبيراً من نهجه مما كان يُعرف بالأنظمة الاشتراكية.

نالت تلك الأحزاب والشخصيات من الاتهامات ما يكفي، وصولاً إلى التخوين والاتهام بالعمالة، ليس فقط من أجهزة السلطة ومخابراتها، بل كذلك من الأحزاب اليسارية، بما فيها من كان منها في صف المعارضة، ومن دخل السجون وذاق ويلات التعذيب فيها، بحجة أن الديمقراطية للشعب فقط، وليست الديمقراطية التي لا تخدم إلا البرجوازية!

بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وكتلته، بسرعة كبيرة في أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي (1989-1991)، وجد هذا اليسار العتيق نفسه في حالة من الضياع واليتم، في حالة من الفراغ الوجودي إلى درجة قاتلة، فكانت مراجعاته التي لم تتعدّ القشور، حين قرر خلع العباءة الحمراء وارتداء العباءة الليبرالية دون مراجعة وفهم لا للماركسية، التي تبناها كأيديولوجية طيلة سبعين عاماً، ولا لليبرالية التي عاداها طيلة تلك المدة، فما كان منه إلا البحث عن أيديولوجية جديدة، فوجد في الديمقراطية ضالته؛ لأنها القيمة التي يجمع عليها الكثيرون، وينادي بها الغرب الليبرالي الذي هزم الشرق الاشتراكي بشكل ما، فتحولت إلى حل لكافة المشاكل التي تنخر جسد المجتمع والسلطة، كما كانت الماركسية من قبل.

وفق العقلية المتمذهبة، التي تحوّل كل فكر إلى أيديولوجية، وإلى تدين أعمى، كان توجه هؤلاء نحو الديمقراطية، دون التخلي عن العمق الديكتاتوري للعقل الذي شكلّهم طيلة الفترة السابقة. فكانت الصدمة الأولى عندما نجحت جبهة الإنقاذ الجزائرية في الانتخابات البلدية والعامة عام 1991، إذ وقفت غالبية هؤلاء الديمقراطيين الجدد ضدها، بحجة أنها فصيل رجعي وإحدى أدوات الإمبريالية، كاشفين عن قناعاتهم الحقيقية الكامنة تحت هذه القشرة الجديدة، والتي تؤمن بأن النظام الجزائري تقدمي واشتراكي ومناهض للإمبريالية!

تكرر ذات الموقف مع الانتخابات التي جرت في غزة ونجاح حركة حماس، ويتكرر اليوم مع انتخابات تركيا، ومع أي تجربة بعيدة عن الصف التقدمي الذي يظن أنه يمتلك الحقيقة والموقف الصحيح الوحيد.

لن نقول إلا أن الديمقراطية هي آلية لإدارة الصراعات بشكل سلمي، وهي تقبل التعدد والاختلاف والتشارك والتصارع، وقبول نتائج الانتخابات مهما كانت، والتداول السلمي للسلطة بناء على تلك النتائج، إضافة إلى استقلالية السلطات، وعدم تحكم لا المخابرات ولا الطليعة الثورية بمزاج وعقل الناس، وإمكانية محاسبة السلطات ومساءلتها، مهما كانت، وفق القوانين التي تساوي بين الجميع. الديمقراطية هي الآلية التي من خلالها يمكن لقاضٍ أن يوقف قراراً رئاسياً.