عدسة Fabio Bucciarelli | حلب
ترجمة وإعداد: منصور العمري | خاص عين المدينة
من لاعبي الفيتو إلى العواطف
مع دخول الحرب في سوريا عامها الثالث يستمرّ تحولها إلى صراعٍ وحشيٍّ أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من مئة ألف شخص، وتسبّب في نزوح الملايين عن ديارهم. الحراك، الذي بدأ انتفاضةً سلمية، انتقل إلى أن يكون الحرب الأهلية الأكثر دمويةً في العالم، والتي تغذيها مجموعةٌ من التدخلات الخارجية في جميع الأطراف.
يكاد الصراع السوريّ يكون أول حربٍ أهليةٍ معقدةٍ بهذا الشكل يشهدها العصر الحديث، فماذا تقول أدبيات العلوم السياسية في الحروب الأهلية وحركات التمرّد عن الحرب المتصاعدة في سوريا؟
نشرت مجلة فورن بوليسي نتائج ورشة عملٍ بعنوان "العلوم السياسية والحرب في سوريا" أقيمت في جامعة جورج واشنطن، قسم العلوم السياسية في الشرق الأوسط، تناولت من منظورٍ مقارنٍ وببصيرةٍ نظرية، الصراع الدائر في سوريا. وشارك في هذه الورشة عددٌ من كبار المختصين في الحروب الأهلية، وعددٌ من المتخصّصين في الشأن السوريّ، ومجموعةٌ من مسؤولي الحكومة الأمريكية الحاليين والسابقين الذين يركزون في عملهم على سوريا. وتوصلوا جميعهم إلى أنه "لا يمكن التكهن بأي حلٍّ عسكريٍّ أو تفاوضيٍّ للحرب السورية"، ولكن هذا فقط جزءٌ من القصة، فالأمر الأكثر إثارةً للاهتمام هي الأسباب التي أدّت إلى امتناع الحرب السورية عن الحلّ، وكيف أسهمت السياسات الدولية في هذا الأمر.
تفرّد الحالة السورية
لا يمكن الاعتماد على نظريات العلوم السياسية السابقة ونتائجها، كأن نقول إن حلول التسوية في التجارب السابقة كانت فاشلة بنسبة 68%، أو أن الدعم الخارجيّ للجماعات المتمردة عادةً ما يجعل الصراع أكثر دمويةً ويطيل عمره، كما أنه لا يمكن مقارنة الحال السورية بغيرها، لأنها تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن بقية الصراعات.
فالحالة في سوريا هي خليطٌ من نظامٍ متماسكٍ نسبياً ترعاه جهاتٌ خارجيةٌ قوية، ويسيطر على المناطق الأكثر أهميةً استراتيجيةً في البلد، وتتنافس مجموعاتٌ متنوعةٌ من الفصائل المعارضة المحلية وفصائل جهاديةٌ أجنبيةٌ للسيطرة على بقية المناطق. أكثر الصراعات قرباً من الحالة السورية هي أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية في بداية القرن الحاليّ، ولكن الحرب السورية تلوّح بمستقبلٍ سيءٍ للغاية خلال العشر سنوات القادمة.
في الوقت نفسه، فالعديد من الميزات التي تظهر الحالة السورية على أنها فريدةٌ من نوعها ليست كذلك، فالانقسام والمعارك الداخلية للمعارضة نموذجيةٌ تماماً، وأيضاً الآثار الضارّة للدعم الخارجيّ غير المنسّق للفصائل المسلحة، واستهداف المدنيين لأسبابٍ تكتيكية، وتسييس المساعدات الإنسانية؛ أمورٌ ليست جديدةً من نوعها. ليس هناك شيءٌ غير عاديٍّ حول ظهور الاقتصاد السياسي للحرب، لسوء الحظ، ورثت الحرب السورية كل هذه المحرّكات الديناميكية. وفي مقارنةٍ مع بعض الصراعات الدموية الأخرى في التاريخ المدنيّ، فالحرب في سوريا لا تزال في بدايتها، رغم مرور ثلاث سنوات تقريباً.
حرب الشرعيّات البديلة
حتى شدّة العنف ضد المدنيين، والحجم الهائل من النزوح، هي نموذجيةٌ في هذا النوع من الصراعات، إذ يستخدم النظام السوريّ القوة بشكلٍ وحشيٍّ ومكثفٍ جداً لأنه لا يهدف فقط إلى إلحاق الهزيمة العسكرية بمعارضيه، ولكن إلى منع جهود المعارضة من بناء هياكل الحكم الشرعيّ البديل.
فبينما يترتب على المعارضة السياسية إثبات قدرتها على توفير الخدمات الأساسية والاستقرار والأمان في المناطق التي تسيطر عليها، يقوم النظام بمحاولة تقويض تلك الجهود من خلال إطلاق الصواريخ العشوائية، وغيرها من الأعمال العسكرية غير العقلانية الأخرى، والحرمان من وصول المساعدات الإنسانية على اختلافها.
وفي الوقت نفسه، فإن الطبيعة المجزأة للمعارضة تعني أنه ليس من المستغرب أن نرى الجماعات المتمرّدة غالباً ما تقاتل بعضها أكثر من قتالها ضد النظام. فالجماعات المتمرّدة لا ترغب فقط في إسقاط نظام الأسد المكروه، لكنها تخشى أيضاً من سيطرة منافسيها داخل المعارضة والاستئثار بنتائج النصر. ووثق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في حالاتٍ من أفغانستان إلى البوسنة أن الجماعات المتمرّدة التي تفتقر إلى البنية المؤسساتية المشروعة والفعالة غالباً ما تغيّر ولاءاتها وتحالفاتها بسرعة.
معضلة التشرذم
تحدثت مجموعةٌ أخرى من المختصّين عن سيناريوهاتٍ مختلفةٍ لتغيير الصراع السوريّ، ولكن مع تداعياتٍ تؤثر على المدنيين وعلى النتيجة النهائية للحرب على حدٍ سواء. فاقترح جيمس فيرون من جامعة ستانفورد أنه إذا استمرت الحرب وتوضحت أطرافها وجبهاتها فذلك سيخفف من الضرر الذي يتعرّض له المدنيون.
وقال جون شولفر من جامعة فيرجينيا إن الفصائل المعارضة كلما أمنت جانب النظام ستقتتل فيما بينها، كما يمكن أن يتلاشى العنف أيضاً مع استقرار علاقات القوى المحلية واتجاهها إلى أنماطٍ أكثر قابليةً للتنبؤ، فضمن إطار الحرب الأهلية تتسبب مجموعةٌ متنوعةٌ من الدوافع المحلية باندلاع العنف أغلب الأحيان.
إن التفتت والاقتتال الداخليين في المعارضة السورية هو نموذجٌ من نوعٍ معينٍ من الحروب الأهلية وهو النوع الأقلّ قابليةً للحلّ الدبلوماسيّ، والأكثر انفتاحاً على التدخل الأجنبيّ غير البنّاء، والأقلّ احتمالاً لإنتاج الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب. وقال بول ستانلاند من جامعة شيكاغو إن هذا التشرذم بدأ في وقتٍ مبكرٍ من الانتفاضة السورية التي اندلعت في أنحاء البلاد بطريقة محلية، مع عدم وجود قيادةٍ مركزيةٍ حقيقيةٍ أو تماسكٍ مؤسسيّ، وإن عدم التماسك الأوليّ الذي وسم الثورة غير قابلٍ للإصلاح، وتوحيد الفصائل المعارضة مهمةٌ صعبةٌ للغاية.
أضاف ويندي بيرلمان من جامعة نورث ويسترن أن الانتفاضة السورية كانت متماسكةً في بدايتها بشكل غير متوقع، ولكنها فقدت هذه الميزة عندما استحوذت الفصائل المسلحة على قيادة الحراك المدنيّ لعدة أسباب؛ منها ضغوط الحرب، والتسليح غير المنتظم أو المتّسق لفصيلٍ دون آخر، وهو ما تقوم به القوى الأجنبية، وأحياناً تشكل فصائل جديدة. هذا الدعم يقوّي اللاعبين المحليين ولكنه يحولهم إلى أتباع لأجندات ومصالح الجهات الراعية الخارجية.
الدعم غير الحاسم
إن الآثار الضارة للتمويل غير المنسّق والأسلحة من قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية، والشبكات الخاصة بتحويل الأموال من الخليج إلى سوريا، هي بالضبط ما يقع في إطار أدب العلوم السياسية "فالتجزئة في مصادر وتوزيع المال للثورة هو واحدٌ من أهم أسباب التفرقة في صفوفها".
وقد جادل العديدون أن الولايات المتحدة قد تغيّر كلّ هذا بتقديم المزيد من الدعم للجيش السوري الحرّ، من خلال تنسيق تدفقات المعونة من حلفائها على نحو أكثر فعاليةً والتوسّط في خلق هيئةٍ معارضةٍ سياسيةٍ سوريةٍ لاستقبال الدعم. ولكن ستانلاند شكك في فعالية هذا الأسلوب إذ إن "ضخّ الدعم الماديّ إلى مجموعاتٍ ضيقةٍ قد يوفر بعض التعاون المحدود من الفصائل التي تحتاج إلى المساعدة، ولكن من غير المرجّح أن يؤدي إلى تغييرٍ تنظيميٍّ عميق، وهذا يعني أن الدعم الخارجيّ لجماعاتٍ غير منضبطةٍ أساساً لن يفعل الكثير".
وبحسب شولفر، أدّى الدعم الخارجيّ للجماعات المعارضة المسلحة بهذه الطريقة إلى النتيجة الأسوأ من كلّ الاحتمالات الممكنة، حين امتدّ القتال وجعل التسوية أكثر صعوبةً وأدّى إلى زيادة مخاطر الاقتتال بين الفصائل وسهّل أيضاً صعود المتطرفين. إذ إن هذا النوع من الدعم أدّى إلى ضمان بقاء الفصائل على قيد الحياة في حربها ضد النظام، ولكن مع افتقارها إلى القدرة على إلحاق الهزيمة الحاسمة به.
ز بسبب عدم التدخل العسكريّ المباشر من قبل الولايات المتحدة أو بعض القوى العسكرية المهيمنة الأخرى - وهو سيناريو غير مرجّح - تشير أدبيات العلوم السياسية إلى أن تسليح الثورة السورية المجزأ من المرجح أن يجعل الحرب أطول وأكثر دمويةً وأقل قابليةً للحل... تماماً مثل ما حدث مراراً وتكراراً في حالاتٍ أخرى.
لاعبو الفيتو السوريون
لذلك، فإن معظم المختصّين المساهمين في ورشة العمل متشائمون للغاية إزاء احتمال إنهاء الحرب الأهلية في سوريا في أي وقتٍ قريب. فالصراع في سوريا يحتوي أسوأ تكويناتٍ ممكنة؛ من معارضةٍ متشرذمة، وكثيرٍ من المفسدين المحتملين، والجهات الفاعلة الخارجية التي تتدخل بما فيه الكفاية للحفاظ على الصراع المحتدم، ولكن ليس بما يكفي لوضع حدٍّ حاسمٍ للحرب. وأشار ديفيد كننغهام من جامعة ميريلاند إلى عددٍ من "لاعبي الفيتو" في سوريا، الذين يمكن أن يعرقلوا أية تسويةٍ ما لم تراعي مصالحهم. بالإضافة إلى مشكلة عدم الالتزام الكامنة في أي اتفاقٍ عن طريق التفاوض، حين لا يثق أيٌّ من الجانبين بالآخر في عدم مواصلة القتل إن ألقى أحدهما السلاح. وأوضح فيرون أن جماعات المعارضة تسعى لتغيير النظام بدلاً من وعود الإصلاح، لأنهم يعتقدون أن الدكتاتور سوف يتراجع عن الالتزامات في أقرب وقتٍ إن توقف التهديد لوجوده، وهو ما أثبتته أدبيات العلوم السياسية. وخلصت باربرا ولتر من جامعة سان دييغو إلى أن "احتمالات التوصل الى تسويةٍ تفاوضيةٍ ناجحةٍ في سوريا قريبة من الصفر"، فكل المؤشرات تؤيد الاستنتاج بأن الحرب في سوريا سوف تستمر لفترةٍ طويلة. ولكن لحسن الحظ يعارض هذا التوقع كل من ليلى وكاليفاس من جامعة ديوك ويقولان إنه قد يكون هناك بصيصٌ من الأمل في حقيقة أن الحرب السورية تبدو بالفعل أشبه بالحرب التقليدية، فبياناتها تظهر أن الحروب الأهلية التقليدية ذات "المعارك الضارية والخطوط الأمامية المرئية والقتال في المناطق الحضرية" هي أكثر كثافةً وأقصر وأقلّ احتمالاً أن تنتهي بانتصار النظام من الحروب الأهلية غير التقليدية. فالحالة السورية تشبه الليبية أكثر مما نتصور، وبالتالي هناك فرصةٌ أن تنتهي بسرعةٍ مفاجئةٍ وبهزيمةٍ للنظام.
وماذا سيحدث بعد الحرب؟
للأسف، لم يجد المشاركون في الورشة أي سببٍ وجيهٍ للاعتقاد بأن سوريا ما بعد الحرب ستسير للتعافي في أيّ وقتٍ قريب، ليس فقط بسبب حجم الموت والتشريد اللذين لن يسهّلا استعادة الاقتصاد الطبيعي أو عودة اللاجئين، فالحروب الأهلية الطويلة ترسخ الأسواق السوداء وأمراء الحرب المحليين الذين يعتمد بقاء سلطتهم الاجتماعية على استمرار الصراع. كما لاحظ روجر بيترسن من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الحركات الثورية الدامية، كالحالة في سوريا "يمكن أن تخلق مشاعر قوية". فكيف يمكن توقع العودة إلى حياةٍ طبيعيةٍ في ظلّ الأسد دون أن تسعى المعارضة للانتقام؟ وكيف يمكن للجماعات المرتبطة بنظامه ألا تخشى من هذا الانتقام إن سقط؟ وما هي الآثار النفسية والاجتماعية على المدى الطويل من وحشيةٍ لا حدود لها أفرزتها الحرب، وتراكمت في وجدان السوريين؟