إنه عصر التطرّف يا سيدي!

ربما يمكن القول إن ما يميّز عصرنا الحالي، وبالتحديد سنواتنا العشرين الأخيرة، هو التطرّف، بمعنى سيادة اللاعقل في المحاكمة والمناقشة والتحليل من جهة، ومن جهةٍ أخرى استخدام القوة والعنف.

شكل التدخل الأميركيّ لإخراج القوات العراقية من الكويت اللحظة الأولى في استخدام العنف والتعامل اللاعقلانيّ مع الأزمة الناتجة عن ذلك التدخل. وتوّجت تلك اللحظة بعد اثني عشر عاماً عندما اجتاحت القوات الأميركية العراق ودمرت مختلف البنى العسكرية والاجتماعية، وخلقت كل الظروف المناسبة لتناحرٍ مستمرٍّ بين الطوائف وتحديداً بين السنّة والشيعة، بعد أن مكّنت الطائفة الشيعية من السيطرة على مؤسّسات الدولة الجديدة، واستعدتها تجاه الطائفة الأخرى، فارتكبت في حقها خطايا كبيرة. وعلى النهج نفسه تابعت الحكومة الطائفية والعميلة بامتياز، مما أسّس لعنفٍ نلمس آثاره اليومية في عموم المنطقة.

سبق احتلال العراق غزو أفغانستان بعد ضربة 11 أيلول في قلب الولايات المتحدة، والتي وفرت خدمةً لن تنسى لدوائر صنع القرار في الغرب، إذ قسمت إدارة بوش والمحافظون الجدد، كما بن لادن، العالم إلى فسطاطين، فاستنفرت مختلف دوائر الأمن الغربية والعالمية لخطرٍ جديدٍ قادمٍ من الشرق وتحديداً الإسلاميّ، الشرق الذي شكلوه وفق مصالحهم ودعموا فيه أنظمة الحكم الاستبداديّ التي يعقدون معها أشد الصفقات فساداً، إضافةً إلى أنه منبع ثرواتٍ وسوق تصريف.

لم يدرك الغرب أنه، بسياسته الداعمة لأنظمة الاستبداد تجاه شعوب الشرق، إنما يؤسّس لعنفٍ مستقبليٍّ كبير، يضاف إليه دوره المباشر في تفكيك البنى المجتمعية الأهلية وذرّها في الرياح باستكبارٍ وعدائية. فتخيلوا في كلّ مواطنٍ من هذه البلدان قنبلةً موجهةً ضدهم، وبالتالي صار عليهم معاملة كلّ قادمٍ من الشرق كـ«إرهابيٍّ» كامن، وانعكس جزءٌ من هذا التعامل مع مواطنيهم ذوي الأصول الإسلامية، الذين يعانون في الأساس من مشاكل التهميش وعدم السعي الجاد من دولهم لتحقيق دمجٍ متوازنٍ لهم في مجتمعاتهم الجديدة. فكان اختلاف الثقافات والحضارات مبرّراً لتكريس الفوارق أكثر مما كان يمكن أن يكون مصدر ثراءٍ وتطويرٍ للمجتمعات، وكانت تصنيفات هنتينغتون تجسيداً صارخاً لفهم المجتمعات وفق ثقافاتها التي رأى فيها جدراناً تحول دون التقارب، بل ستكون السبب الكبير وراء الصراعات والحروب القادمة.

جاءت ثورات الربيع العربيّ، وهي ما أطلق عليها المثقفون الغربيون «الصحوات العربية»، كحدثٍ جللٍ فاجأ الجميع، من دوائر المخابرات في الدول الكبرى وصناع القرار والسياسات فيها إلى مختلف الأحزاب والنخب السياسية والثقافية في المنطقة، ولا سيما أنه حدث في بلدانٍ مختلفة التركيبة السياسية والمجتمعية، ولكنها تتشارك في سيادة نموذجٍ من أنظمة القمع المتدرّج من المرن إلى المفرط. فتونس، البلد الذي يتمتع بعلاقاتٍ متميزةٍ مع الغرب، وخاصةً فرنسا والولايات المتحدة، حكمتها نخبةٌ غربيةٌ منذ استقلالها، فرضت قوانين تتجاوز الخلفية الإسلامية لعموم السكان بقوة الأمن والسلاح، وخاصّةً ما كان يُعدّ في نظر التقدميين العرب خطوةً إيجابيةً في قوانين الأحوال الشخصية، إضافةً إلى السلوك الاستفزازيّ للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وتحديه مشاعر عموم المسلمين بشرب الماء علناً في شهر رمضان (ربما يفسر هذا جزئياً الأعداد المتزايدة في صفوف التنظيمات الإسلامية المتطرّفة من تونس).

الملاحظة الأخرى عن تونس هي التركيبة المهنية للجيش الذي بقي على الحياد، لا بل شجع الرئيس زين العابدين بن علي على الهرب وعدم مواجهة المتظاهرين. فكان كلام وزير الداخلية بأن هناك أكثر من (25) ألف متظاهرٍ في الشارع كافياً ليحزم بن علي أمتعته ويفرّ إلى خارج البلاد، وهو يدرك تماماً أن الجيش لن يستجيب لأوامره بمواجهة المتظاهرين.

أما في مصر، حيث مؤسّسات الدولة العريقة، المدنية والعسكرية، كما مؤسّسات المجتمع المدنيّ من نقاباتٍ وأحزاب، فرغم أن قيادات الجيش كانت على ارتباط وثيقٍ برأس النظام بمصالح وامتيازاتٍ كبرى، لكنها وجدت من مصلحتها عدم المواجهة مع المتظاهرين، وأجبرت الرئيس حسني مبارك -بشكلٍ غير مباشر- على التنحي عن السلطة.

أما النموذج الثالث ففي سورية، حيث كانت مواجهة قوات الأمن عنيفةً للمتظاهرين منذ بداية الثورة، وعميقةً في مستوى الإهانات، بدءاً من طريقة التعامل مع أطفال درعا وذويهم، إلى التعذيب الوحشيّ في المعتقلات، فالرصاص في مواجهة الصدور العارية، مما استبعد أي استمراريةٍ لنضالٍ سلميٍّ رغم كلّ المخاطر التي ستنشأ عقب ذلك.

كانت بنية الجيش والمخابرات في سورية معروفة، إذ تسيطر على الجهازين نخبةٌ من أبناء الطائفة العلوية، حصلت على امتيازاتٍ ماليةٍ وعينيةٍ كبيرةٍ حتى صار مصيرها مرتبطاً تماماً باستمرار النظام ورأسه. فكان خيارهم المواجهة حتى النهاية ولو كان الثمن حرق البلد، فبقاؤهم من بقاء الأسد، وهو الشعار الذي وسم عقيدة الدفاع لديهم، ومن بعدُ لدى مواليهم وشبيحتهم.

وجدت الفصائل الإسلامية المتشددة، التي كان العراق مجالها جرّاء الممارسات الأميركية وما تبعها بعد الانسحاب من سلوكٍ عدوانيٍّ تمييزيٍّ للحكومة الطائفية الفاسدة، الفرصة سانحةً للانتقال إلى سورية بعد مدّةٍ قصيرةٍ من بدء الطابع المسلح للثورة، في لحظةٍ مشتركةٍ للنظام وللفصائل المتطرّفة لتقاسم العنف بدرجات، وفرض النموذج العقائديّ الخاصّ بكلٍّ منهما وكلاً على حدة، وهو ما كان بداية لحظةٍ فارقةٍ في تاريخ الثورة، زرعت بذور التفتت والفرقة في جسدها أكثر ما كانت عاملاً وطنياً جامعاً.

توسعت دائرة التطرّف بشكلٍ واسعٍ لتشمل عموم شرائح المجتمع. فغير ميدان السلاح، الذي كان المحفز الرئيسيّ لكل أنواع العنف، انتشرت مظاهر التطرّف بين عموم الأهالي والنخب السياسية والثقافية. فعلى وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي ألغت الكثير من القيود على حرية الآراء وانتشارها، نجد مظاهر تطرّفٍ لغويٍّ يعكس حالة قلقٍ ودمارٍ عميقين دفعت إليهما العوامل المذكورة سابقاً؛ من الغرب الداعم للأنظمة الاستبدادية، والنظم الدكتاتورية الطائفية، وسلوك التنظيمات الإسلامية الارتداديّ الذي كان في عمقه إجابةً خاطئةً على مشكلةٍ قائمة.

فعندما نرى إعلاميةً من زبانية النظام تتصوّر بين جثث المدنيين وتعبر عن فرحتها لما أنجزه جيشها العظيم، أو عندما ينتشر شريط فيديو يصوّر كيفية حرق شابٍّ معتقلٍ وهو حيّ، أو عملية جزّ رأسه بمنشارٍ كهربائيّ؛ فنحن أمام حالةٍ من توغل العنف الماديّ ليس لدى صناع القرار فقط، بل تتعداهم لتشمل شريحةً أوسع من الفئات المرتبطة مع النظام، التي تشعر أنها ستتعرّض للمزيد من الضرر في حال زواله، ونتيجة اعتقاداتٍ وتوهماتٍ طائفيةٍ تنسج وتؤسّس لأحقادٍ تبرر لحامليها الأفعال التي ذكرت.

ولا يقتصر الأمر على الصور والأشرطة، وهي الأقلّ، مقارنةً بالتعليقات واسعة الانتشار التي تبدي الرغبة الشديدة في الانتقام والتشفي بالقتل، وقبله بالحصار، وغيرهما من تعبيرات الكراهية.

وربما كان تنظيم الدولة الإسلامية هو الوحيد الذي يقارَن في توحشه مع عنف النظام. فقد أسّس عرضُه للأشكال المختلفة من قطع الرؤوس على أيدي مقاتليه متعددي الجنسيات ومن مختلف الشرائح العمرية بمن فيهم الأطفال، لقواعد رعبٍ من طرازٍ مختلف. فلا قانون حمايةٍ للأسير، أو لمن يلبسونه ثوب المرتد،ّ أو لمن خالف قوانينهم التي تنتهك آدمية البشر في الأساس.

أما الطرف الكرديّ، الذي تحتكر تمثيله عملياً قوات حماية الشعب YPG، فلم يكن خارج هذا السياق بل في صميمه، ولكن على أساسٍ عرقيّ. فتمثيل هذه القوّات بقتلى الجيش الحرّ، واستعراض جثثهم على الشاحنات في «كانتون» عفرين في مهرجانٍ احتفاليٍّ هستيريّ، لا يخرج عن إطار الغوص في بحر الانتقام والتأسيس للعداوات الثأرية.

وعلى الطرف الآخر، الطرف الثوريّ الذي مثل في لحظةٍ ما القيم التحررية والرغبة في الخلاص من الاستبداد، تراجعت هذه المفاهيم أمام هيمنة السلاح وسيطرة الخطاب الإسلاميّ المتشدد، بعد أن أسهم عنف النظام وحلفاؤه في نموّ البذور التي تؤسّس لنزعاتٍ انتقاميةٍ ماديةٍ ومعنوية. فانتقلت عدوى استعراض صور وأشرطة القتل إلى صفوف الثوّار، بالإضافة إلى التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهي الأكثر انتشاراً. فصار من المألوف أن نقرأ، عند أيّ عملية قتلٍ لجنود النظام أو الميليشيات الداعمة له، عباراتٍ من نوع: «تم الدعس»؛ «إلى جهنم وبئس المصير»؛ «الجيش النصيري الكافر»؛ «الميليشيات الرافضية»؛ «الإيراني المجوسي»... وكلها تشير إلى لغةٍ طائفيةٍ يجري تنشيطها بقصدٍ أساسيٍّ هو تحويل مقاصد الثورة إلى نزعاتٍ انتقاميةٍ طائفية الجذور والنوايا.

ليست الغاية مما سبق هي الاستعراض وإنما التنبيه إلى الحالة البائسة التي نعيشها والتي باتت تسري في عموم عروق المجتمع، كحالةٍ ملازمةٍ لسياسة القوة التي انتهجها النظام وحلفاؤه واستجابت لها البقية بدرجاتٍ مختلفة. الأمر الذي أبعد أهداف الثورة السورية في الحرية والكرامة عن الواجهة، وجعلها مطيةً ضمن عمليات الصراع الدوليّ والإقليميّ المعقدة التي تجري على أرضنا. وهذا ما يجعل إعادة طرح الخطاب الوطنيّ للثورة، الذي يجمع كلّ المتضررين من سياسة ونهج الاستبداد الأسديّ وحلفاؤه، كخطابٍ يستبعد اللغة الطائفية ويركز على قيم الحرية والتسامح والمحاسبة الفردية للمجرمين؛ أولويةً سياسيةً للجميع.

فالمركب يغرق، والكثيرون يحاولون إغراقنا، ولكن إن كان لدينا الأمل والإرادة يمكننا مقاومتهم وتوجيه المركب نحو شاطئ النجاة.