إنعاش الذاكرة على وقع إعلان الهدنة

لا يكفي الكثير من جلد الذات لاجتراع الهزيمة التي تمت، الخميس 29-12-2016، بالتوقيع على هدنةٍ شاملةٍ بين النظام من جهةٍ وأحفاد عبد الله علوش من جهةٍ أخرى. لكن إنعاش الذاكرة ببعض ما حصل قد يفتح العقول على اليسار الغبيّ المسالم واليمين المتذاكي المجرم.

ولأن أول أيام الهدنة صادف يوم الجمعة، علينا أن نتذكر جمعة «لا للحوار» وصفحة «الثورة السورية» ونتساءل حول «فداء السيد - الإخونجي»، أحد أهم مؤسسي الصفحة التي تلاشت بعدما وصلت الحالة السورية إلى نقطة اللا عودة. أتت جمعة لا للحوار بعد 4 أشهرٍ فقط من انطلاقة التظاهرات، في سياق التأسيس لتخوين أي طرفٍ يذهب لحوار النظام أو التفاوض معه.

وعلينا أن نتذكر مظاهرة باب هود في حمص 31-12-2011، والتي رفعت البطاقات الصفراء في وجه برهان غليون، رئيس المجلس الوطنيّ آنذاك، لتوقيعه على ما يشبه وثيقة مبادئ مع هيئة التنسيق (دفع ماجد سليمان «أبو البراء»، أحد أعضاء «مجلس ثوار دير الزور»، مبلغ نصف مليون ليرةٍ سوريةٍ لإخراج مظاهرة مثيلةٍ في دير الزور لإسقاط جورج صبرا)، ونفتح باب الأسئلة حول الجهة التي تبنّت النموذج الليبيّ وشكلت المجلس الوطنيّ كمقدمةٍ لإقناع الجماهير بقرب التدخل العسكريّ الغربيّ كما حدث في ليبيا بعد تشكيل مجلسها الوطني الانتقاليّ. وهنا يُقرّ «معاذ السراج»، القيادي البارز في الإخوان المسلمين، أن الجماعة هي من دفعت الأموال وجمّعت المعارضين وشكلت المجلس.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، علينا أن نتساءل لمَ كل ذلك السخط على هيئة التنسيق، ونعود بهذا التساؤل إلى مؤتمر حلبون في 17-09-2011 واللاءات الثلاث (لا للتدخل العسكري – لا للطائفية – لا للعنف). فـ«اللا» الأخيرة هنا كانت تؤرق مستثمري الحروب من دول الخليج التي دعمت بكل طاقتها عسكرة الثورة عبر التنظيمات الاسلامية، وبالتالي القضاء على أمل «اللا» الأولى.

ولأن الشارع الذي يفيض بالحماس بدا متقدماً بالتضحيات حيناً وبالمزاودة أحياناً على كل أطياف المعارضة السياسية؛ كان على بعض المعارضين من أمثال ميشيل كيلو الخروج فوراً إلى الإعلام بعد مؤتمر حلبون ليعلن عدم انتمائه إلى هيئة التنسيق وحضوره المؤتمر كضيف، ومن أمثال صبحي حديدي الشيوعي الذي ينتمي إلى صفوف حزب الشعب والذي آثر البقاء على مسافةٍ من جميع أطياف المعارضة للتفرغ لنقدها. حديدي، وفي مقاله اللاذع عن مبادرة هيئة التنسيق[1]، لم يألُ جهداً في تسخيف وتتفيه الهيئة ولاءاتها الثلاث وإفراغ المبادرة من محتواها، خاتماً مقالته بـ: «ثمة خلاصة واقعية، قديمة ولكنها تتجدد اليوم مع مبادرة «هيئة التنسيق»، سبق أن بلغها قياديون في الهيئة ذاتها: هنالك معارضة تريد إسقاط النظام، وأخرى تريد تغييره من داخله. الدرس المرير، في المقابل، هو أنّ النظام ساقطٌ لتوّه، وانهياره الختامي مسألة وقت؛ والطامحون إلى مصالحته مع الشعب والمستقبل والحياة هم، في أفضل توصيف رحيم، مراهنون على رماد متطاير، وسط لهيب متصاعد!». لم يتمهل حديدي، ولو لحظةً واحدة، لينظر في كلفة الدم المقابلة لإسقاط نظامٍ شموليٍّ حصّن نفسه لمدة أربعين عام، وعبّر بشدّةٍ عن قصور المثقف السوريّ في استشراف المستقبل، هذا المستقبل الذي تجلى بالأمس باتفاقٍ أسلم للريح دماء نصف مليون شهيد، ببنودٍ لم ترقَ إلى مبادرة هيئة التنسيق ذاتها، والتي رفضها الجميع تماشياً مع غوغائية الشارع.

وعلينا أن نتذكر أيضاً أن صقور هيئة التنسيق، من أمثال هيثم مناع ورياض درار، الذين لم يكونوا على سوية خطاب الهيئة المتمسك بالسلمية المطلقة وحوار النظام على عكس المجلس الوطنيّ. فبمجرّد خروجهم من الهيئة توجهوا إلى التحالف مع أبشع الفصائل العسكرية الكردية «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أول المقتطعين حصتهم من البلاد.

لم نقدّر حجم قوتنا وأدواتنا كما يجب، ولم ندرك أنه لا بواكي لنا، وصعّدنا المطالب دون أي رؤيةٍ سياسيةٍ واضحة، وقمعتنا الفصائل الإسلامية في منتصف الطريق ليصبح الحديث عن الحرية والديمقراطية ضرباً من الكُفر والشرك، تلك الفصائل ذاتها التي وقعت على اتفاق أنقرة، بحجة حقن دماء السوريين اليوم، بعدما أهدرتها بالأمس.

[1] مبادرة هيئة التنسيق:
أولاً: التوافق على هدنة مؤقتة بين جميع الأطراف التي تمارس العمل المسلح، وفي مقدمتها قوى النظام.
ثانياً: يطلق الطرفان، خلال أسبوع من بدء سريان الهدنة، سراح جميع المعتقلين والأسرى والمخطوفين.
ثالثاً: يسمح الطرفان لهيئات الإغاثة بإيصال المعونات الغذائية والطبية وتسهيل معالجة الجرحى.
رابعاً: في حال التزام الأطراف المعنية بما سبق، يكون المناخ قد توفر لإطلاق عملية سياسية، تقوم على التفاوض بين قوى المعارضة وبين وفد من النظام يملك صلاحيات تفاوضية مطلقة، يضم شخصيات لم تتلوث أيديها بالدماء، من أجل البدء بمرحلة انتقالية محددة المدة (سنة)، تهدف إلى تحضير البلاد من أجل التوصل إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ تعدديٍّ برلمانيّ.