لينا سيرجيّة عطّار (مهندسة معماريّة وكاتبة أمريكيّة من أصل سوريّ)
ترجمة مأمون الحلبي عن النيويورك تايمز
يقع بيتي في حلب في شارعٍ هادئٍ ينتهي بقطعة أرضٍ كبيرةٍ كانت، بقدر ما تعود بي ذاكرتي، أرضاً صخريةً جرداء بين الأحياء السكنية، وكان مخططاً لها أن تكون حديقةً منذ عقودٍ إلا أن هذا لم يحصل أبداً، كما الحال في معظم أنحاء سوريا. بلغني الأسبوع الماضي أن الناس وجدوا أخيراً فرصةً لاستعمال هذه الأرض الخالية؛ لقد بدأوا يدفنون موتى حلب فيها.
أمام البيت الأبيض، ناشطون سوريون يقرؤن أسماء شهداء الثورة السورية
ليس من المدهش أنه حتى أحلامنا بحدائق مستقبليةٍ تلاشت في سوريا، وليس من المدهش أن بيتي الآن يجاور بيت الموتى، فكلّ سوريٍّ يمشي وأطياف الموتى ترافقه. الثورة التي انبثقت من الرغبة البشرية الأولية للحياة علمتنا (لسخرية الأقدار) حكمة الموت الكبيرة عوضاً عن ذلك. لقد تغلغل الموت فينا بكل أشكاله.
بعد عدّة أيامٍ ستدخل الثورة السورية عامها الرابع. ها قد مضت ثلاث سنوات منذ أن هبّ آلاف السوريين ليقاتلوا وحشية وظلم نظام الأسد بالأناشيد والأعلام، فقوبلت أناشيدهم بالرصاص والاعتقالات الجماعية، وفيما بعد قوبلت مقاومتهم المسلحة بالبراميل المتفجرة والصواريخ الكيماوية. سوريا التي كنا نعرفها ضاعت، فثلث سكانها مهجرون وأكثر من مليون بيتٍ مدمّر وأكثر من 100,000 ألف قتيل. لم يعد الربيع فصلاً للاحتفال بولادةٍ جديدة، إنه فصلٌ للحداد على موت حلم بلد.
على مدار السنوات الثلاث الماضية أطلقت على كفاح الشعب السوري من أجل حقه في تقرير مصيره تسمياتٌ عديدة: ثورة، انتفاضة، حرب أهلية، حرب بالوكالة، نزاع معقد؛ الاسم ليس مهماً، فإحدى الحقائق واضحة: العالم يتفرّج على إبادةٍ جماعيةٍ بالحركة البطيئة.
أتذكر عندما كان عدد القتلى في العشرينات والثلاثينات ثم امتدّ ببطءٍ إلى الستينات والثمانينات. كان أول يومٍ بلغ فيه عدد القتلى المئة علامةً فارقةً سرعان ما أصبحت أمراً يومياً غير لافت. في آب 2012 حصدت مجزرةٌ وقعت في داريّا، وهي قلب الحركة اللاعنفية في سوريا، أرواح 500 شخص. صُدِم العالم لكنه لم يتحرك. في يومٍ آخر من أيام آب 2013 يُقتَل أكثر من 1400 شخصٍ بالغازات السامة. هاج العالم لكن لا شيء تغير. يبدو أنه لا رقم للقتلى السوريين سيحرّك الضمير العالمي، وحتى الأمم المتحدة كفّت عن إحصاء قتلانا. بالنسبة إلينا، نحن السوريين، لكل واحدٍ من هذه الأرقام اسمٌ وأسرةٌ وعمرٌ بأحلامٍ لم تتحقق. وجوههم الجميلة والحزينة تحَيّينا كل يومٍ على صفحات التواصل الاجتماعي، وعندما نُدخِل حكاياتهم في تواريخنا تصبح حكاياتنا نحن. ليس لدى السوريين نعمة عيون العالم العمياء، فنحن لا نستطيع أن نكفّ عن إحصاء الآلاف من قتلانا الملفوفين بأكفانٍ بيضاء والمصفوفين في قبورٍ محفورةٍ في تربة سوريا التي لها لون الصدأ، ولا نستطيع أن نحوّل بصرنا عن وجوههم أو أسمائهم. من هذه الرغبة بتذكر خسارتنا الهائلة والحداد عليها وُلِدَ هذا النصب التذكاري الصوتيّ لسوريا. في 12 آذار سيتجمع الناس أمام البيت الأبيض ليقرؤوا أسماء 100,000 سوريٍّ قُتِلوا على مدار السنوات الثلاث الماضية. ستجري هذه القراءة لمدة 72 ساعة متواصلة وتنتهي في 15 آذار، الموافق للذكرى السنوية الثالثة للثورة السورية. وسيتلو القرّاء الأسماء من قوائم - مُجَمّعة من ثلاثة مصادر مستقلة - لسوريين قُتِلوا بكلّ أشكال العنف في النزاع الوحشيّ.
عندما نسمّي أحداً ما باسمه فإن شيئاً ما يتبدّى متجاوزاً التفوّه الزائل. المقاطع المجَسِّدة لاسم المرء تمثل كلّ ما يكونه هذا الشخص أو كان من المفترض أن يكونه. عندما نقرأ 100,000 اسمٍ يكون موتانا قد نالوا قوة الثناء والعرفان الذي يستحقونه. اسماً اسماً، وساعةً بعد ساعة، من التلاوة بمكروفونٍ أمام جمهورِ غارقٍ بمشاغله إلى الهمسات في الظلام المحاط بعـــالمٍ نائم، سنـــــجعل كل اسمٍ مرئيــــاً ومسموعاً للحظةٍ قبل أن يختفي مرةً أخرى. سنواجه صمت العالم بسلاحنا الوحيد الذي أشعل هذه الثورة؛ أصواتنا. وسنطلق العنان - لثلاثة أيامٍ - للأشـــباح التي بداخلنا بين السياسيين والمسؤولين الذين يتظاهرون أنهم يعرفون معنى الإنسانية. كم سورياً أكثر يجب أن يموتوا حتى يفهم رئيسٌ أن المأساة السورية لا يمكن فقط أن يُؤسَف لها في فقرةٍ من مذكراته القادمة الأكثر مبيعاً؟ ذات يومٍ لن يتوجب على السوريين السؤال "كم سورياً أكثر؟" أخشى أنه حينذاك ســـــتكون كل حديقـــةٍ قائمةٍ أو مفترضــــةٍ في سـوريا قد أصــبحت مقبرةً مقدّسة.