في العام 2009 تم استدعائي إلى فرع الأمن العسكري بحلب، من قبل رئيس قسم الأحزاب فيه العميد عماد محمد. تهربت من المقابلة طوال أكثر من شهرين، أمضيتهما متوارياً بعيداً عن بيتي وأسرتي، إلى أن استسلمت وذهبت إلى موعد حددوه لي. لن أدخل في تفاصيل اللقاء المطول الذي كان هدفه «التعارف» على زعم العميد. وبمعنى من المعاني كان توصيفه صحيحاً، لأنه طلب مني أن أطرح أفكاري السياسية «بكل حرية». وقد فعلتُ ذلك دون تردد، وأصغى هو بصبر واحترام. سأقتصر على نقطة واحدة، لها علاقة بموضوع هذه المقالة.

طلب مني العميد أن أذكر له مآخذي على نظام «التطوير والتحديث»، فتطرقتُ، من ضمن أمور أخرى، إلى موضوع الفساد. فقال لي إن النظام يكافح الفساد بكل جدية، وأشار إلى كومة ملفات فوق مكتبه، دليلاً على ما يقول.

ابتسمت له وقلت: دعني جانباً كمعارض، وقل لي ما مدى مصداقية ما تحكيه عن مكافحة الفساد بالنسبة لشخص من عامة الشعب؟ وضربت له مثالاً بعبد الحليم خدام. فاستنفر كما لو أنه وقع على كنز ثمين قائلاً: بما أنك ذكرت خدام، هل ترى من المنطقي أن تحتضن المعارضة رجلاً فاسداً كعبد الحليم خدام؟

ابتسمت مرة أخرى وقلت له بهدوء القتلة: ضع نفسك محل رجل من عامة الشعب، وفكر معي: إلى حين انشقاقه، كان خدام من كبار رجالات النظام، وزيراً لخارجية حافظ الأسد، ثم نائباً له، ولنجله بشار الأسد. في تلك الأيام أي سوري كان يجرؤ على اتهام خدام أو غيره من أركان السلطة بالفساد أو أي اتهام آخر؟ ثم، في لحظة واحدة، كبستم الزر، وتحول الرجل من وطني إلى خائن، وقام مجلس الشعب بتخوينه بالإجماع. وكل ذلك لأنه أعلن انشقاقه عن النظام. ألن يتساءل المواطن العادي هذا السؤال البريء: ترى كم فاسد وخائن ما زال يحكمنا الآن، ولن ينكشف أمره إلا إذا انشق عن النظام؟

اتسعت عينا العميد بذهول ولزم الصمت أمام هذا الكفر الصريح. بدا مرعوباً لسماع كلماتي كما لو أنه يمكن أن يتهم بالمشاركة في جريمتي إذا لم يفحمني برد قوي. وفي الوقت نفسه، يبدو أنه عجز عن إيجاد رد من هذا النوع، فابتلع لسانه مذعوراً. سيأتي رده لاحقاً، من خلال تقرير رفعه بحقي إلى فرع فلسطين في دمشق حيث سأستدعى بعد حين، وأتلقى معاملة قاسية جداً وإن لم تصل حد الضرب والتعذيب، لكنها كانت بمثابة إنذار قوي. لكن هذا خارج موضوعنا.

ما أعاد إليّ هذه الذكرى القديمة هو انشقاق المدعو بسام الملك عن الائتلاف الوطني، وعودته إلى «حضن الوطن»، وما أثاره هذا الانشقاق من لغط في الصف المعارض. أرى أن ما كان ينطبق على عبد الحليم خدام، في مدلولات انشقاقه عن النظام، ينطبق بالمثل على انشقاق بسام الملك، وقبله من سبقوه كميس كريدي ونواف البشير. فالسؤال الذي طرحته صفحات فيسبوك المعارضة هو هو: ترى كم من أمثال بسام الملك ما زال موجوداً داخل الائتلاف المعارض، ومتى يأتي دورهم في العودة إلى الحضن الدافئ لنظام البراميل والسلاح الكيماوي الهانئ، بدوره، في الحضنين الإيراني والروسي؟

والسؤال الآخر البديهي: هل كان بسام الملك، ومن سبقوه، وطنياً معارضاً حقاً في الفترة السابقة على انشقاقه، ثم انقلب فجأةً على نفسه؟ وما هي معايير انتقاء الأفراد عند تشكيل أي إطار معارض، بما سمح بتسلل أمثال كريدي والبشير والملك؟

كل هذه الأسئلة والشكوك، ربما ما كانت لتطرح لو كان أداء تلك الأطر مقنعاً. والحال أن الأداء الرديء وقصص الفساد والانتفاع أزكمت الأنوف قبل حدوث أي انشقاق، وهو ما يعطي المبرر لمطالبة الائتلاف وغيره من أطر المعارضة السياسية بكشف حساب أمام الشعب، وصولاً إلى حل تلك الأطر تماماً وتنحيها عن «سلطة المعارضة» إذا صح التعبير. هذا ما يقتضيه الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية الوطنية والسياسية والأخلاقية.

وخاصةً في هذا السياق التاريخي الذي يراد فيه للمعارضة أن تبصم على بقاء بشار الأسد ونظامه.