«6 إلا ربع» والبامياء والجسر المعلّق.. رموز العابر حين يُغادر دير الزور ولا تُغادر

عمل فني عن لوحة لبيكاسو - الفنانة غيداء -صفحة لوحات في زمن الثورة على الفيسبوك

يعود إلى مدينة تتكئ على جثة الحرب، وتهدهد لحلم ثورة لا تعرف تحت أيّ كومة من حطامها تجده. في ذاكرته أخيلة لمكان لايعرف كيف يصبح مزدحماً، ولا يطيق الهدوء والفراغ، لمدينة يُضجرها الاتساع، وتختنق في صورة المدن العتيقة ذات الزواريب الضيقة.

إنّها قصتهما الأبدية، هو المتغير في صورته كشخص ينتمي إلى حيّز بين نهر ويباب، والثابت في وصفه كذات لاتُنكر سطوة المكان عليها، وهي تساوي المعادلة وحلّها.

إنّها مقاربة ذهنية لدير الزور في حالة لاجئ، أو نازح، يبحث عنها في رمزية دالّة يمكنه اختصار طرفي المعادلة عليها، ليكثّف لحظة انتماء تعيد إليه توازنه وتساويه. وهذا ليس افتراضاً مقتصراً على دير الزور، فكلّ المهجرين على رقعة الحرب يعيشون لحظات التكثيف هذه، بأسماء عدة، غير أننا سنختص في السطور القادمة بالبحث عن تكثيف فرادة دير الزور.

كيف يمكن أن تكثّف مدينة شبه مدمرة؟

ربما في «قرن بامية».. وسيكون ممكناً التوصّل إلى استنتاج أنّ الطعام مُنتَج اجتماعي ذو دلالات استقلالية في شخصية المكان، وهو مقترن في حالة ديرالزور بالبذخ المعتمد على الوفرة، وسيصعب ربط ثمرة صغيرة مزغبة بمكان معقّد، مالم يكن في المبدأ ثمة إدراك أنّها أداة تفرّد في معناها الجغرافي، وفي صورتها النهائية كتفصيل من رمزية تُشير تحديداً إلى ديرالزور دون غيرها.

الأمر ليس بسيطاً إذاً كما يبدو، هناك قرار اجتماعي يلتزم به أبناء المكان، بمن فيهم ذاك «الثابت المتغير» الذي أشرنا إليه سابقاً، وقرن البامية هذا هو حلّ ممكن لسؤال التفرّد الذي يتيح له فهم بقاء مدينة مدمرة قادرة على إنتاج رغبة أهلها بها.

ربما في جسر معلّق.. هذا ليس شيئاً صنعه الديريون، لكنهم أنتجوا حكايته حتى موته. الجسور المعلّقة ليست هندسة استثنائية، وهو أحدها، بل إنه من تلك الفئة الأقلّ تعقيداً في بنيتها الهيكلية، والتي تعتمد على تكرار منتظم في توزع القوى، أتاح له ثباتاً طويلاً، حتى سقط مع المدينة كومة من الحديد والحجارة.

أين سرّه؟ هو في دلالاته المدينية، فهو أول الدير من جهتها الخصيبة، ولكونه بلا مثيل في سوريا، فقد أنتجت ديرالزور حوله شخصيته المستقلة، فهو في ذاته معشوق حامل للعشق، وهو شرفة عالية على نهر تتيح استعراض اتساع النهر من وجهة نظر ولد يُحلّق لثوانٍ قبل أن يلتحم بالفرات، لا مكان في ديرالزور يمكنه تقديم صلة بين أقانيم الأرض والهواء والماء مثل الجسر المعلّق.

لكنّ استحضاره، كرمز متعيّن يُمكن تكثيف ديرالزور به في اغتراب شخص، لا يكون بتصوره موجوداً، بل بلحظة سابقة على متنه المتأرجح مع الريح والخُطى. وهو في صورته تلك يضغط الوجد المديني بين نهايتين متساويتين، تمدّان حبالهما على مجهول من ماء وأسرار.

ربما في شارع ستة إلا ربع... إنّه سوق عادي جداً، صفّان من المحلات على جانبي حارة ضيقة وملتوية تعجّ بالمتسوقين، وبأكثر منهم من صيادي البهاء العابر، لكنّه تمايز في كونه تمرد اجتماعي ذكي على رسميات الأسماء الحصيفة، لديه اسم في بطاقة هويته السورية، غير أنّ أحداً لا يكترث لهذا، وفي الواقع فالاسم «ستة إلا ربع» هو أسطورة محدثة لها تأويلات شتى، وهي أيضاً موضع عدم اكتراث، لأن المدينة تبنّت وجوده كتعبير حضري عن مزاج المتعة المستقل، والواقع أن متعة السير فيه تنبع من فرادة اسمه أولاً، ومن شبه مثيولوجيا حداثوية تقول إن الجميلات يُصبحن أجمل بين جنباته.

وبالنسبة لديري هائم في أصقاع الأرض، ستتكثف المدينة عند ستة إلا ربع كطرفة عين، بسرعة الضوء من جميلة تقرأ ملامحه ثم تمضي، وتتركه أكثر تحضّراً بثانية أو ثانيتين من الفرح.

هل وجدنا حلول معادلتنا؟ ديرالزور المدمرة البائسة يُمكن طبخها، والتأرجح على حبالها، بل وترميم ألواح ميثيولوجياتها المدينية… غير المفسرّة.