تعدّدت أنماط التديّن الإسلاميّ في سورية قبل الثورة، بين خطابٍ صوفيٍّ آخذٍ في الانحسار والخروج عن جلده في غالب الأحيان، وآخر فقهيٍّ وعلميّ، اعتنت به شريحةٌ من المتخصّصين في الشريعة وطيفٌ من تلامذتهم المسجديين، وثالثٍ مخاتلٍ اختصّ به من يليق وصفهم بالفعل بـ«علماء السلطان»، من مفتين رسميين، ومتصدّرين لشؤون إدارات الأوقاف، ووعّاظٍ في التلفزيون الحكومي.
والحقّ أن أياً من هذه الأنماط الثلاثة لم يملأ فراغ الحاجة إلى تديّنٍ أصيلٍ وبسيطٍ ومعاشيٍّ، يرضي أرواح غالبية السوريين. فقد اختلطت الصوفية بكثيرٍ من الممارسات والأعراف الشعبية، مما أخذ يخفف بالتدريج من جاذبيتها أمام مجتمعٍ كان العصر يبسط فيه حضوره، سواءً بالتعليم المجانيّ، وهو سبيل معظم السوريين إلى الصعود، أو عبر وسائل الإعلام المرئيّ المتعاظمة التأثير. وظلّ النشاط الدرسيّ للعلوم الإسلامية محصوراً في فئةٍ محدودةٍ مهما اتسعت، فضلاً عن كونه يتطلب مواظبةً طويلة الأمد وجديةً ليس الجميع على استعدادٍ لها. أما النمط الثالث فكان له الدور الأكبر في تشويه صورة ما يعرف بالإسلام المعتدل، ولا سيما عند السوريين بعد الثورة، إذ ارتبط بالفعل بتبرير أفعال النظام مهما بلغت من وحشية، وصار رموزه أمثلةً قميئةً على المداهنة وتزييف الدين للبحث بوضاعةٍ عن مكاسب دنيوية.
وإذا كان للنزعة الاستئصالية تجاه الإسلاميين، التي اتبعها نظام حافظ الأسد إثر أحداث الثمانينات، دورٌ كبيرٌ في محاصرة الخطاب الدينيّ وتقليص أفقه وشعوره بالأهمية، فإن هذا لا ينفي واقع الحال الذي وصفناه، ولا يعفي رجالات الإسلام السوريّ المعاصر من مسؤولية ترك معظم السوريين، ولا سيّما السنّة منهم، لقمةً سهلةً لأيّ خطابٍ يستطيع العصف بقناعاتهم واستمالتهم إليه لمجرّد ما يبدو عليه من تماسكٍ ظاهريٍّ واستدلالاتٍ من المصادر الأساسية ومن أقوال كبار علماء الإسلام. وهو بالضبط ما فعلته داعش، وإن لم يقتصر عليها فقط.
فقد عصفت بجمهــــور الثــــورة ومقاتليها رياحٌ خاطفةٌ وشديدةٌ من السلفية بمختلف تدرّجاتها. وفي الحال الراهنة ما أسهل أن اقترنت السلفية بالجهادية لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من المقاتلين، كما في حركة أحرار الشام، وهي من أبرز الفاعلين على الأرض السورية منذ سنتين وحتى الآن، إن لم نتحدّث عن جبهة النصرة، ذات الرسالة السلفيّة الجهاديّة بالأصل. وما دامت هاتان الحركتان قد اجتمعتا مع داعش على أرضية واحدةٍ من «أخوّة المنهج»، فقد صار من الصعب على أبنائهما ردّ بغي الإخوة المعتدين. واقتضى الأمر من شرعيي الجماعتين مدّةً طويلةً، وعدداً كبيراً من الضحايا على يد داعش، حتى بان قرار الحسم النظريّ. أما عملياً فلا زالت أماراتٌ من التحرّج تظهر هنا وهناك، فضلاً عن زمنٍ شهد انشقاق أفرادٍ ومجموعاتٍ من هاتين الحركتين، وسواهما، والتحاقهم بداعش. بينما اكتفى أصحاب الخطاب المعتدل، من الشيوخ التقليديين لبلاد الشام، بإصدار البيانات غير المؤثرة عملياً، من تركيا وسواها، عبر الإنترنت، مما طعن كثيراً في مشروعيتهم لدى عموم المقاتلين.
***
ونختم بسببٍ كان له تأثيرٌ كبيرٌ في تعزيز جاذبية داعش، وهو الإعلام المضادّ لها! فقد مرّ وقتٌ طويلٌ دأب فيه الإعلام الثوريّ والعربيّ على تصوير التنظيم بصورٍ تبالغ بشدّةٍ في شيطنته واتهامه بالعمالة، ونشر نماذج مختلقةٍ من فتاوى منسوبةٍ إليه، كفرض الحجاب على أثداء البقر، وقطع أصابع المدخّن، وسوى ذلك من الأحكام الغريبة التي لم يكن مطلقوها يطالَبون بأدلةٍ جدية، ما داموا يتهمون تنظيماً «مجنوناً» قد يصدر عنه أي شيء، دون سياقٍ من تعقّلٍ أو مرجعيةٍ شرعيةٍ مهما كانت متشدّدة.
والحال أن الناس لما عاشــروا التنظيم، جواراً أو حين استــيلائه على مناطقهم، لمسوا منه ضروباً من القسوة والتشدّد، ولكنهم عرفوا بسرعةٍ أنه ليس عميلاً لإيران أو للمخابرات السورية –كما كان يشاع- وأن له ضوابط تحكم حركته على العموم، مهما كانت مغاليةً وغير مألوفةٍ أو مقبولة. وكان لانهيار الأوهام التي بناها الإعلام في النفوس عن التنظيم أثرٌ مزلزلٌ على الكثيرين الذين اعتبروا أنهم قد تعرّضوا للخداع، ووجدوا أنفسهم خاويي الوفاض أمام حجج «الدولة المظلومة»، التي لو اكتفينا بتصوير وجهها الحقيقيّ، من تطرّفٍ في الشرع، وتوسعٍ في استباحة الدماء بوحشيةٍ، وعداءٍ للثورة ولمصالح السوريين في العيش الكريم، لكفانا شرّ الافتراء والمبالغات.