شهدت مدينة دير الزور تحولاتٍ فكريةً واجتماعيةً واقتصاديةً عميقةً سبّبت إرباكا قوياً ومفاجئاً أفرز تأثيراً واضحاً في عمارة وعمران المدينة، كان من أبرزها إزالة "الدير العتيق" عام 1968م (في عهد المحافظ أسعد صقر)، والذي كان يتألف من ثلاثة أحياءٍ ذات نسيجٍ متضامٍّ ودروبٍ ضيقةٍ وملتوية. أما المباني فكانت من طين اللبن والحجارة المحلية بارتفاع طابقٍ أو طابقين، وذات فناءٍ داخليّ.
إن ما حلّ بالدير العتيق بالأمس هو خطأٌ قاتلٌ بمنظور اليوم، رغم المبرّرات الموضوعية التي قدمها المدافعون عن إزالته في ذلك الوقت - ولا ننسى أن فكرة الحفاظ على التراث لم تكن جزءاً من الثقافة المعمارية حينها - لتخسر دير الزور بذلك جزءاً شديد الأهمية من هويتها. لاحقاً، وفي عام 1998، حاول محافظٌ بعثيٌّ آخر، هو صلاح كناج، إزالة السوق المقبي، لكنه لم يتمكن من ذلك. لحسن حظ هذه المدينة، قليلة الحظّ، من الناحية التراثية والمعمارية على الأقل.
لمحةٌ تاريخية
قامت المدينة (الدير العتيق) على تلٍّ اصطناعيٍّ مكوّنٍ من تراكم عدّة حضاراتٍ على الضفة اليمنى لنهر الفرات. وقد ورد ذكرها في العديد من كتابات الرحالة الأجانب. ويذكر الطبيب والعالم النباتي "رودلف"، الذي توقف في المدينة سنة 1574م: "أنها مدينة صغيرة يحكمها الأتراك وسكانها عرب... البيوت مبنيةٌ على الجهة اليمنى لنهر الفرات. وهي محاطةٌ بسورٍ وخندق". وتذكر الرحالة البريطانية "آن بلانت"، التي زارت الدير عام 1878م: "ارتفعت مدينة الدير فوق ربوةٍ صغيرةٍ وحولها بعض الأطلال التي تدلّ آثارها على العمران القديم والأفنية التي تمتد خلفها. وهناك عددٌ كبيرٌ من القبور حول المدينة، تدلّ على ماضي مدينةٍ كبيرة".
وجدها العثمانيون بلدةً صغيرةً باسم "الدير" فاختاروها مركزاً لموظفيهم، وكانت تابعة لولاية "أورفا". وعندما أعلنوا التشكيلات الإدارية الثانية، عام 1864م، أضافوا كلمة "الزور" إلى اسمها لتمييزها. وأصبحت "دير الزور" قائمقامية (منطقة)، فأنشئت فيها أول دارٍ للحكومة هي السرايا القديمة. وخلال أقلّ من سنةٍ تحوّلت إلى سنجقٍ (متصرفية) تابعة لحلب. لترتبط عام 1868م مباشرةً بالآستانة، وليتبعها العديد من الأقضية والنواحي. ولتتطور بســـــرعةٍ خـــــلال الـــثلاثيـن سـنةً اللاحقة، فقد أنشئت المــدارس وبنيــت المساجد، كمــــا بني جسرٌ حجريٌّ (تهدّم عام 1990م). ثـــــــم خضعت دير الـــزور للسيطرة البريطانية عام 1919م، ليــــحل بعدهم الفرنســــيون (1921م)، الذين أعلنوا وصايتهم على كامل سورية.
يتألــف "الديــــر العتيق" من ثلاثة أحياء، أقـــــــدمها وأعرقــــها حـــــي الوسط (المحاذي للأسواق من الــــــجهة الغربيـــــة) ثم حي الشـــــرق ثــــــم حي الغـــــرب. ولكل حيٍّ مسجده؛ ففي الوسط مسجد الوسط ذو المئذنة المثمنة المبنية بالآجر (ويعتقد أن تاريخ إنشائها يعود إلى العهد الأيوبي أو المملوكي)، وفي الشرق جامع ملا علي الذي أنشئ عام 1893م، وربما أعيد بناؤه في هذا التاريخ ويعود بناؤه إلى تاريخٍ أقدم، أما في الغرب فيوجد جامع الغرب. وكانت المدينة محاطةً بسورٍ تليه ساقيةٌ من الجهة الجنوبية متفرّعةٌ من نهر الفرات، وذلك لصدّ هجمات البدو.
التطـوّر العــمرانيّ للمــناطق السكنية في المدينة
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، نشأت الأحياء السكنية في مدينة ديرالزور، وفقاً لموقع منطقة الأسواق (الأسواق التقليدية أو ما يعرف بأسواق التجار أو الظلام). فقد توسّعت المدينة حول الأسواق لتكون مساكن التجار والحرفيين قريبةً من أماكن عملهم. وهو ما يفسّر نشوء المدينة بشكلٍ متجانسٍ لمستوى المساكن، وبالتالي عدم نشوء الأحياء الفقيرة بالقرب من الأسواق، مما دفع الفقراء ومتوسطي الحال إلى السكن على أطراف المدينة، وجلّ هذه الطبقة من القادمين من الريف والغرباء.
وأهمّ ما أصاب المدينة من تغيراتٍ عمرانيةٍ خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو فتح الشارع العام وبناء أسواق التجار بين عامي (1864-1887م) وذلك زمن المتصرف أرسلان باشا. كما بني قصر الباشا وسراي الحكومة 1868م. وفي عام 1883 أحدث حي الغرب وحي عبد العزيز. وفي عام 1889م، زمن المتصرف صالح باشا، توسّعت المدينة نحو الشرق والغرب على الطريق العام، ونشأ حيّ الشيخ ياسين والرشدية وأبو عابد. وتوسّعت المدينة من جهة الغرب والشرق بدءاً من عام 1864م.