مواطن الدرجة الأولى (2)

يأكل المكسيكانو ويطعم المجدّرة لرعاياه

اليوم، يعبّر شارع التكايا، وهو الشريان التجاريّ لمدينة دير الزور، عن القفزة المالية الكبيرة التي حدثت للبعض، والتي ترجمت على أرض الواقع أضواءً تنير الشارع بكامله وازدحاماً على مدار ساعات عمله. لكن، وبالدخول إلى أية حارةٍ تتفرّع عنه، يتكشّف البؤس والظلمة التي تعيش في صراعٍ خفيٍّ مع كهرباء المولدات التي يبيعها تنظيم الدولة للتجار والميسورين.

 

منذ هجومه على المدينة، لم يكفّ تنظيم الدولة عن مغازلة التجار (أصحاب المهنة المباركة كما يقال). فقد منع عندها الدخول والخروج باستثناء مراكب وسيارات البضائع التي أعطى أصحابها أوراقاَ بعدم التعرّض على حواجزه. وهو نهجٌ ما زال التنظيم مصرّاً عليه، فمن المستحيل استعمال جسر السياسية (اليوغسلافي؛ مدخل المدينة الوحيد) لغير عناصره وسياراتهم والتجار وبضائعهم، أما باقي الناس فيتنقلون بالسفن النهرية. وقد ساعدت حرّية تنقل البضائع، والمصادرات (الغنائم) التي يعرضها التنظيم للبيع بين الحين والآخر بأسعارٍ زهيدةٍ، وبيع السلاح، وتجارة النفط، واستغلال مال المساعدات في التجارة، وغير ذلك من ممارساتٍ، على خلق واقعٍ اقتصاديٍّ جديد. إذ ظهرت ثرواتٌ كبيرةٌ على شكل بضائع، على رأس هرمها مشروب الطاقة وعصير الشعير والمشروبات الغازية والشيبس وأنواع المعجنات والشوكولا التركية والأمريكية والمياه المعلبة. والكثير من هذه البضائع غريبٌ عن السوق المحلية الفقيرة.

يشغل شارع التكايا –التوحيد، حالياً- عشرون محلاً ضخماً لبيع المواد الغذائية (سوبر ماركت) وعشرون مطعماً، أربعةٌ منها فقط تبيع الفلافل أما الباقي فيبيع اللحوم المشوية والوجبات السريعة، كالشاورما والمكسيكانو والفاهيتا وغيرها من الأطعمة التي يتقاطر عليها المهاجرون. وقد افتتح التنظيم ثلاثة مطابخ تعمل ليلاً نهاراً لتجهيز وجباتٍ من هذه المأكولات تكفي لألفٍ ومئتين من مقاتليه على الجبهات الداخلية للمدينة، إذ واجه هؤلاء بالسخط الكبير وجبة المجدّرة التي حاول التنظيم من خلالها تخفيض ميزانية الإطعام (كما أفاد أحد موزّعي الوجبات). ويعدّ انتشار محلات الكوكتيل والعصير مؤشراً على نوع الزبائن الذين "يحرّكون" شارع التكايا، فهذا النوع من المهن لم تعرفه المدينة إلا بعد دخول التنظيم. أما باقي الشارع فلمقاهي النت وبائعي أجهزة الموبايل الحديثة. وغنيٌّ عن القول (بحسب أكثر من بائع) أنّ المهاجرين هم زبائنها الدائمون في ظلّ البطالة التي تضرب بسكان الأحياء شمال وجنوب الشارع؛ فهنا "ما تشوف إيدك من الظلام"، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا محلات باستثناء بعض الدكاكين القليلة التي توفر الخضروات الأساسية والبقول والأرز وأطعمة الأطفال البسيطة (القطعة بخمس ليرات سورية!). وأمام هذه المحلات، وفي البيوت المجاورة لها، تدور النقاشات بحرّيةٍ. وينتشر رأيٌ يقول "إنّ عناصر الدولة، وبالأخصّ المهاجرين، يجب ألا يتقاضوا الرواتب، لأنهم جاءوا –كما يدّعون- في سبيل الله. فسكنهم وطعامهم ولباسهم مجانيٌّ، أما المال فلا حاجة لهم به". كما يتداول الأهالي ردّ أحد الأمراء على المتململين من انصباب اهتمام التنظيم على المهاجرين، حين رأى "أنهم يستحقون ذلك، لأنهم كانوا طليعة المنتسبين للدولة". ولم يعد من الخافي على أحدٍ حجم الضائقة التي تعصف بالناس، وانعدام موارد العيش باستثناء المساعدات الخارجية بالسرّ ومعونات التنظيم المتواضعة والمتذبذبة، ولذلك يعتمد الكثيرون على ما يقدّمه مطبخه المدنيّ من وجباتٍ أهمّها المجدّرة.

ومما له بالغ الدلالة في هذا المجال إقدام بعض خطباء المساجد على طرح الموضوع دون مواربةٍ من فوق المنابر، فصرّحوا في خطبهم أن "أهل الدير منافقون، إذ يكرهون المهاجرين ويفرحون عندما يقتل أحدهم. كما أنهم يحسدونهم على معيشتهم، وخاصّةً تمتعهم بالأكل في المطاعم". ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد انبرى خطباء آخرون للردّ على أولئك: "فهذا الأمر يراد به الفتنة. والناس عندما يحسدون المهاجرين فذلك بسبب ضيق ذات اليد". وبغضّ النظر عن أوضاعهم الاقتصادية، والأسباب الشخصية والطموحات التي حدت بالخطباء الذين أثاروا الموضوع، والمنافسة أو الإحساس بالغبن الذي دفع آخرين للردّ عليهم، وموقف المهاجرين أنفسهم وقد اقتصر على طلبهم السكوت عن الأمر برمّته؛ فإن الواقع يفرض نفسه، خاصّةً مع المشهد اليوميّ لجموع المتسوّلين من الأطفال والنساء والشيوخ وهم ينتظرون سيارات المهاجرين أمام المقرّات لاستعطافهم.

يبدو ما يروّج له التنظيم من وعودٍ حكراً على عناصره -المهاجرين خاصّةً- فهم من يستطيع توجيههم دون خوفٍ من الحسابات السياسية والاجتماعية التي يتردّد أمامها الآخرون، كقرابة الدم والجوار والانتقام المستقبليّ كما يرى البعض. ولكن هذه العناية ونتائجها الاقتصادية الواضحة والخفية تظهر كالفقاعة المحشوّة بالتبن، فهل سيؤدي انفجارها إلى كارثةٍ أخرى؟