من سيرة نفط دير الزور بعد الثورة

جبهة النصرة والنفط (2)

(مادةٌ مأخوذةٌ من دراسةٍ عن النفط في المحافظة، منذ خروجه ومنشآته عن سيطرة النظام وحتى الآن. أعدّها فريقٌ من الباحثين. وتصدر قريباً عن "عين المدينة")

رغم اهتمامها المبكّر بشؤون النفط، ومحاولاتها المتكرّرة إقناع المجموعات المسيطرة على الآبار بتسليمها لها، أو مشاركتها بجزءٍ من الواردات؛ لم تستخدم الهيئة الشرعية المركزية القوّة لتنفيذ خطتها بالاستيلاء على آبار النفط، إلا بعد احتدام التنافس بين النصرة وتنظيم الدولة في دير الزور، وتنامي المخاوف من نوايا التنظيم السيطرة على النفط، بالتزامن مع ما كان يحدث في الشمال السوريّ –حيث كانت تتركّز قوّة التنظيم- من مواجهاتٍ يبدأها مع القوى الأخرى.

السيطرة على معمل «كونيكو» للغاز:

وجدت الهيئة الشرعية في السلوك الطائش للمجموعات العشائرية المسلحة التي تسيطر على معمل غاز كونيكو ومرفقاته النفطية دافعاً معزّزاً يضاف إلى دوافعها الخاصّة للسيطرة على المعمل. وقال البيان الذي أصدرته الهيئة، يوم 14/11/2013، بخصوص المعمل: «إن من المعلوم شرعاً أن الثروة النفطية هي ملكٌ لجميع الأمة ولا تستأثر بها مجموعةٌ دون أخرى بل لا بدّ أن ينال الجميع منه حقهم حسب العدل والإنصاف وترتيب المصالح. لقد وصل الأمر في حقل الغاز في منطقة خشام حدّاً لا يطاق من استئثار فئةٍ قليلةٍ بمقدّرات الأمة ثم العبث بها مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائيّ لأيامٍ طويلةٍ تسبب هذا الأمر في وفاة العديد من الأطفال الأبرياء وتلف الكثير من المواد الغذائية والطبية، وما هذا إلا تلبية لرغباتٍ جامحةٍ دون أدنى إحساسٍ بالمسؤولية. فمن غير المقبول أن تتعطل الواجبات الشرعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخدمات العباد نظراً لعدم توفر المال الكافي ثم يلعب بعض الناس بملايين الليرات يومياً، والغلاء قد عمّ والوضع المعيشي قد تدهور، والجبهات المفتوحة بحاجة إلى دعم، هذا وفضلاً عن الكهرباء التي أصبحت ألعوبة بأيدي تجار الدم الذين أخذوا يهددون العمال والموظفين في المعمل ويمنعونهم من أداء عملهم. إن هذه الأفعال والجرائم ترقى لدرجة الحرابة والإفساد في الأرض، ولذلك وبناءً على مقتضيات الأوامر الشرعية في وجوب التوزيع العادل لأموال المسلمين العامة ومنع الضرر عنهم. ورغم النداءات المتكرّرة بتسليم هذا المعمل للهيئة الشرعية دون استجابة. لذلك فإن الهيئة الشرعية في المنطقة الشرقية تقرّر ما يلي:

  • وضع اليد على معمل الغاز في خشام وما يلحق به ليكون تحت نظر الهيئة الشرعية ومنع التصرف الشخصي به.
  • تقوم القوة التنفيذية للهيئة الشرعية والمتمثلة بالكتائب الموقعة على ميثاق الهيئة بتنفيذ هذا القرار مع أخذ الاحتياطات كافة منعاً من إراقة قطرة دم واحدة، وذلك وفق الاصول الشرعية.
  • تشكيل لجنةٍ مختصّةٍ تشرف على التوزيع العادل لما ينتجه هذا المعمل وفق آليةٍ شرعيةٍ تراعي وضع الجبهات المشتعلة وحاجات الناس وفق ترتيب المصالح الشرعية بعيداً عن الحزبية والمحسوبية.
  • يُراعَى أهل خشام المحيطين بالمعمل في الأولوية بالأعمال الخدمية والإغاثية كونهم الأقرب إليه، ويقدّمون في هذا الموضوع على من سواهم».

دون الكثير من المقاومة من قبل المجموعات العشائرية المسيطرة على المعمل، نجحت القوّة المهاجمة في طردهم منه بعد يومٍ من صدور البيان.

كان لهذا التصرّف وقعٌ حسنٌ لدى الرأي العام لسكّان المحافظة، الذي رأى في المجموعات المسيطرة على معمل الغاز نموذجاً عن اللصوص العشائريين المستأثرين بالثروات. واستفاد أنصار الهيئة الشرعية من هذه النظرة في تصوير عملية الاستيلاء على كونيكو كخطوةٍ هامةٍ في سبيل تطبيق العدالة. وتحدّث شرعيوها عن أربعة أسبابٍ دفعتهم إلى طرد «اللصوص وسارقي الأموال العامة» من معمل الغاز، وهي:

  • ضمان التوزيع العادل للموارد على جميع المسلمين، وبما يراعي فقه المصالح الشرعية.
  • ضمان استخدام هذه الموارد بما يرضي الله في خدمة المسلمين.
  • ضمان استمرار الكهرباء في المنطقة.
  • الحرص على سلامة العاملين في المعمل.

لم تكن المبرّرات السابقة، ولا حرص شرعيّي الهيئة على تقييد وصف اللصوص بـ«القلّة من عشائر خشام»، كافيةً للتخفيف من الإحساس بالإهانة الذي شعر به معظم أهل هذه البلدة. إذ سرعان ما تنهض العصبية القبلية في الأوقات المشحونة نهوضاً لا يمكن حسابه بدقةٍ أو مراعاته بكلماتٍ، كما حاولت الهيئة الشرعية في لغتها أو مفاوضاتها الرسمية قبل وبعد السيطرة على المعمل، بتأكيدها أن المستهدف ليس «العنابزة»، بل بعض الزمر القليلة منهم التي تستأثر بثروات معمل الغاز.

إذ تنتمي المجموعات المطرودة من المعمل، بمعظمها، إلى فخذ العنابزة وهو أحد فروع عشيرة البكيّر، المتفرّعة بدورها، تفرّعاً مستقلاً ومنافساً إلى حدٍّ كبيرٍ، عن جسم عشيرة البوكامل العامّ، الذي بقي يعمل ككتلةٍ واحدةٍ من معقله الرئيسيّ في مدينة الشحيل الريفية. ومما أسهم في تعقيد المشهد الصبغةُ العشائريةُ لمقاتلي جبهة النصرة، رأس حربة الهجوم على المعمل. إذ يتحدّر معظم قادتها العسكريين، وجزءٌ كبيرٌ من مقاتليها، من بوكامل الشحيل. فقرأ العنابزة واقعة الاستيلاء بطريقةٍ عشائرية خالصة.

طرفٌ ثالثٌ كان يتابع ما يجري آنذاك بدقةٍ. إنه جماعة «الدولة»، من معقلهم المجاور لخشام في قرية جديد عكيدات. يمتّ أمير «الدولة» عامر الرفدان بصلات قربى للعنابزة، لأنه ينتمي إلى فخذ المشرف المتحدّر من عشيرة البكيّر. استغل الرفدان هذه الصلات في تأليب أبناء البكيّر ضدّ الهيئة الشرعية، والظهور بمظهر المدافع عن عشيرته. ولقيت محاولته هذه استجابةً جزئيةً من هؤلاء، رغم حرص الهيئة على تفادي أية إثارةٍ من هذا القبيل، إذ اقتصرت في سيطرتها على موقع معمل الغاز الرئيسيّ، دون أن تقترب من الآبار القريبة منه شمالاً، والواقعة تحت سيطرة عائلاتٍ ومجموعاتٍ أخرى من البكيّر. كما حاولت الهيئة تخفيف حدّة الاحتقان بتعيين مجموعات الحراسة من بين أبناء البكيّر. وحاولت كذلك استرضاء جماعة تنظيم الدولة ذاتهم، بعرض نسبة 30% من واردات المعمل عليهم. هذا العرض الذي قوبل بالرفض، وباستفزازاتٍ شبه يوميةٍ لعناصر القوّة التنفيذية في حركتهم إلى الطرقات المؤدية إلى المعمل. وتجنباً لتطوّر هذه الاستفزازات إلى مواجهةٍ واسعةٍ مع تنظيم الدولة ناشدت الهيئة الشرعية المركزية، والتشكيلات الرئيسية المنتمية إليها، في بيانٍ مشتركٍ «مجلس شورى الدولة الإسلامية» و«أميرها الشيخ أبو بكر البغداديّ» للتدخل بـ«إرسال مندوبٍ عنهم والنزول إلى حكم الشرع وفضّ النزاع... وذلك لوأد الفتنة، وقطع الطريق على المغرضين، فإن الأمر لا يحتمل التأخير»، بحسب ما جاء في البيان الذي أكّد أولاً على حقيقة أن معمل غاز كونيكو لم يكن تحت سيطرة تنظيم الدولة، بل «تحت أيدي اللصوص والحرامية»، بحسب وصف البيان. ورغم اللغة الأخوية المفعمة بالاحترام والتقدير لا يبدو أن البغداديّ أو مجلس شوراه قد ألقوا بالاً لبيان الهيئة الشرعية وفصائلها. فقد واصل مقاتلو «الدولة» تحرّشهم بالهيئة، تحرّشاً سيتطوّر إلى حربٍ طاحنةٍ بعد أسابيع قليلة.

على خلاف الليونة والصبر اللذين أبدتهما إزاء جماعة الدولة، لم تتوانَ جبهة النصرة عن القيام بخطواتٍ عنيفةٍ في الحالات التي انفلت فيها غضب المجموعات المطرودة من المعمل، بصورة هجماتٍ طائشةٍ، أو نصب حواجز وقطع طرقٍ، أو اختطاف بعض عناصر التشكيلات المنتمية إلى الهيئة، التي صنّفت، من موقعها القضائيّ والدينيّ، هذه التحرّشات على أنها «حرابةٌ» تستوجب عقاباً قاسياً. إلا أن الهيئة، وبعد نجاح جبهة النصرة وحلفائها في اقتحام بلدة خشام، وتمكّنهم من القبض على «جوجو» (هويدي الضبع) ، أحد أبرز مسلحي البلدة ورأس حربتها في مواجهة الهيئة الشرعية؛ لم تنزل به العقاب الذي توعّدت به وفق التهم الموجهة إليه، بل أفرجت عنه استجابةً لوساطاتٍ عشائريةٍ وضماناتٍ بأن يهدأ ويكفّ عن المشاغبة، وهو ما حدث بالفعل. لتستقرّ، بعد ذلك، أحوال معمل الغاز نسبياً، ولعدّة أشهرٍ فقط، تحت سيطرة جبهة النصرة، أو الهيئة الشرعية المركزية، قبل أن يجتاح تنظيم الدولة المحافظة.

"حرابة" مصطلحٌ فقهيٌّ يعني قيام جماعةٍ مسلحةٍ بإحداث الفوضى وقطع الطريق والقتل والسلب والإتلاف في «دار الإسلام».

خفّفت جبهة النصرة، بسيطرتها على معمل الغاز، من عدد مرّات انقطاع التيار الكهربائيّ، بالتزامها باتفاقية الغاز مقابل الكهرباء المعقودة مع النظام. ولاحقت مهاجمي الأنابيب، مبديةً قدراً أعلى من المسؤولية تجاه المصلحة العامة، رغم المكاسب الخاصّة التي أحرزتها من واردات البنزين الأحمر أو «الكوندينسات»، والتي يصعب تقديرها نظراً للشهادات المتضاربة بين أعضاء جبهة النصرة وشركائها في معمل الغاز.

 

السيطرة على حقل العمر:

بعد نقاشاتٍ حادّةٍ قادها أبو ماريا القحطاني، الشرعيّ العامّ لجبهة النصرة وقتها، مع الأطراف العسكرية والعشائرية الفاعلة في المحيط الجغرافيّ لحقل العمر؛ اتفقت أغلبية الفاعلين على ضرورة استباق «الدولة» في وضع اليد على الحقل مهما كلف الأمر. وجّهت جبهة النصرة إنذاراً حازماً لقوّات الأسد المتمركزة في الحقل بضرورة إخلائه، مع ضمان عدم التعرّض لها في طريق انسحابها. وهذا ما حدث يوم 23/11/2013.

دخلت تشكيلات الهيئة الشرعية المركزية الموقع الرئيسيّ لحقل العمر دون إراقة قطرةٍ دمٍ واحدةٍ، في عملية أقرب إلى التسليم والاستلام. لتنتهي بذلك قصةٌ غريبةٌ من قصص الصراع، تلخّصت ببقاء أكثر من ثلاثمئة جنديٍّ من قوّات بشار الأسد، ومعهم عشرات العناصر من مخابراته العسكرية، كقوّة حمايةٍ للحقل، أمام آلاف المسلحين المنتمين إلى تشكيلاتٍ مختلفةٍ، كانوا، لأكثر من عامٍ، قادرين على سحق تلك الحامية إلا أنهم لم يفعلوا. بل تحوّل بعضهم إلى مدافعين عن الموقع -وعن جنود الأسد بمقتضى الحال- في المرّات التي تعرّض فيها لهجماتٍ من قبل مسلحين آخرين. ومن غير أن تنقص، في معظم الحالات، درجة العداوة التي يكنّها هؤلاء للنظام. ولكن استجابتهم لجملةٍ من العوامل المتداخلة كانت السبب وراء هذا المشهد الفريد، الذي يفسّره بعض قادة التشكيلات التي أسهمت في حماية الحقل بالأسباب التالية:

  • الرغبة في حماية المنشآت والمرافق، شديدة الأهمية، داخل الموقع الرئيسيّ للحقل من السرقة والنهب والتخريب، كما سبق أن حدث، على نطاقٍ واسعٍ، في كلّ المرّات التي خرجت فيها منشآت نفطٍ عن سيطرة النظام.
  • الاستجابة إلى طلب السكّان بتحييد الحقل عن الصراع، لضمان استمرار عمل محطّة توليد الطاقة الكهربائية التي تغذّي عشرات القرى والبلدات القريبة من الحقل.
  • قلة الثقة بالقدرة على إدارة الحقل، وبإقناع المهندسين والفنيين فيه باستئناف عملهم تحت ظلّ السلطة الجديدة.

إضافةً إلى العوامل الثلاثة السابقة، كشف محضر اجتماعٍ عقدته المؤسّسة العامّة للنفط مع إدارة شركة الفرات، المشغّلة لحقل العمر، عن الإجراءات التي اتخذتها الشركة بعد خروجه عن سيطرة النظام، والتي كان بينها، وفق ما ورد حرفياً في محضر الاجتماع: «تخفيض عقود الحماية الخاصّة بالمحطّات بنسبة 25%. ويتمّ مراجعة هذه العقود بشكلٍ دوريٍّ لمعرفة جدواها وإلغاء غير الضروريّ منها».

ويثير هذا النصّ الشكوك حول تلقي بعض الشخصيات والأطراف العشائرية والعسكرية في القرى والبلدات القريبة من الحقل، والمشاركة في جهود حمايته، رشىً على شكل عقود حمايةٍ خلال المدّة السابقة لخروج الحقل عن سيطرة النظام. كما تثير نسبة 75% المتبقية مزيداً من الشكوك عن استمرار بعض الأطراف السابقة، وربما ظهور أطرافٍ جديدةٍ على المسرح، سيحرص النظام على انتقائها بعنايةٍ هذه المرّة، لحماية ما يحتاج إلى حمايته من محطّاتٍ ربما كانت ضروريةً لضمان تدفقاتٍ نفطيةٍ ستصل إلى مناطق سيطرته بطرائق مختلفة.

في الأيام الأولى لسيطرة الهيئة الشرعية المركزية على حقل العمر حدثت عمليات نهبٍ واسعةٌ لموجوداته، تركّز معظمها في السيارات والمعدّات الثقيلة والتجهيزات الفنية والمكتبية. لكن وحدات الإنتاج والمستودعات الضخمة لقطع الغيار بقيت في وضعٍ آمنٍ، نتيجة اتفاقٍ نجح مهندسو الحقل في إبرامه مع جبهة النصرة التي تريد فقط أن يستمرّ تدفق النفط دون انقطاعٍ وبأعلى معدّلٍ ممكن. وبموجب الاتفاق حُدِّدت وظائف شركة الفرات، ممثلةً بموظفيها الحقليين في «العمر»، بالقيام بالأعمال المتعلقة بالجانب الفنيّ والتشغيليّ، وحُدِّدت وظائف جبهة النصرة، ممثلةً بـ«أمير الحقل» المعيّن من قبلها، بالقيام بالأعمال التالية:

- حماية مستودعات قطع الغيار اللازمة لأعمال الصيانة.

- حماية موظّفي الحقل وضمان سلامتهم وتنقّلهم الآمن.

- ضبط حركة الآليات الخارجة والداخلة إلى الحقل.

- حماية الموقع العامّ من هجمات اللصوص القادمين من خارج الحقل.

أما عملية بيع النفط المستخرج من آبار الحقل، والعمليات الأخرى المرتبطة بها، فمن البديهيّ أن تكون في يد «أمير الحقل» وطاقمه الخاصّ.

يعرض بعض مهندسي وفنيّي الحقل شهاداتهم عن اختفاء أكثر من ثلاثمئة ألف برميلٍ من النفط كانت في خزّانات التجميع الضخمة، التي نجح بعض القادة في إفراغها بسرعةٍ قياسيةٍ في أرتال الصهاريج وبيعها للتجّار بسعرٍ لم ينقص عن 4000 ليرةٍ للبرميل الواحد. تضاف إليها مخزونات الغاز المسال المنتجة في أوقاتٍ سابقةٍ من معمل الغاز في حقل العمر –توقف عن العمل في وقتٍ لاحق-، والتي قُدّرت كمياتها بأكثر من ألفي طنٍّ. وتناقل السكّان في القرى والبلدات القريبة أخباراً عن عرض آلياتٍ ثقيلةٍ من آليات الحقل للبيع، من قبل بعض القادة أو المسلحين المنتمين إلى الفصائل المشاركة في السيطرة على الحقل. وكذلك عُرضت للبيع مولّدات كهرباءٍ صناعيةٌ ومحرّكاتٌ ومضخاتٌ وتجهيزاتٌ أخرى.

شكّلت تجربة حقل العمر اختباراً صعباً فشلت فيه الهيئة الشرعية المركزية في أن تكون مؤسّسةً بالفعل، بل ظهرت بصورة كيانٍ مترددٍ وتابعٍ لجبهة النصرة. مما أضعف من هيبة الهيئة في نظر القوى المنتمية أو غير المنتمية إليها، فلم تنفَّذ كثيرٌ من القرارات والتوجيهات التي أصدرتها، ولم يستجب قادة بعض الفصائل لاستدعاءاتها أو حتى لتساؤلاتها بخصوص السرقات العلنية من الحقل. وعلاوةً على ذلك، عجزت الهيئة أحياناً عن تحصيل سهمها من واردات النفط، بشكليه المخزّن أوالمتدفق من الآبار، حتى أنها اضطرّت إلى شراء ثلاث سياراتٍ من السوق، لزوم خدمة مكاتبها في مدينة الميادين، رغم مئات السيارات التي وقعت كغنائم تحت قبضة الفصائل المنتمية إليها.

يصعب الفصل بين الهيئة الشرعية المركزية وجبهة النصرة، إلا في الحالات التي أرادت النصرة فيها ذلك. مما وحّد صورتيهما عملياً في شبه جسمٍ واحدٍ، يضاعفُ من صعوبة تحديد ملامحه وتحليل أدواره تعدُّدُ مراكز القوة والنفوذ فيه، إلى جانب فوضوية الحلفاء ونرجسيتهم. لتذهب أحلام رئيس الهيئة مظهر الويس، ومن معه من السلفيين المبدئيين، الذين حازوا تعليماً جامعياً وانخرطوا في أنشطةٍ حركيةٍ سابقةٍ للثورة، أدراج الرياح. ولم يتحقق شيءٌ من تنظيراتهم في ميثاق الهيئة بأن «يشرف مكتب النفط والغاز» التابع لها «على الموارد النفطية الموجودة تحت سيطرة المجاهدين». وبالكاد استطاع، وفي مرّاتٍ معدودةٍ، «أن يؤمّن الغاز المنزليّ لعموم الناس». بل تبادل «المجاهدون» الاتهامات بالسرقة، وحمّلوا بعضهم مسؤولية الفشل الذريع الذي اعترفوا به جميعاً. دون أن يكشف أحدٌ منهم عن القصة الكاملة، أو عن أجزاء منها، يبيّن فيها مصائر الأموال، أو أن يعلن عن مقدارها على الأقلّ. إلا أن الإنتاجيات المؤكّدة، وبالحدود الدنيا لآبار الموقع الرئيسيّ للحقل، كانت تقدّر بـ5000 برميلٍ في اليوم في الحدّ الأدنى، يضاف إليها 7000 برميلٍ من محيط الموقع، يباع الواحد منها بـ4000 آلاف ليرةٍ على الأقلّ (30-40 دولاراً وقتها). أي أن 360 إلى 480 ألف دولارٍ أمريكيٍّ يومياً كانت تدخل إلى صناديق الفصائل المسيطرة على الحقل، أو إلى جيوب قادتها. تضاف إلى هذا الرقم واردات معمل الغاز من البنزين الأحمر، والحصص المتفاوتة الحجم من شراكاتٍ متقطعةٍ من آبار نفطٍ توزّعت في مناطق مختلفةٍ. كلها كانت تحت سيطرة الهيئة، التي يصرّ بعض موظفيها السابقين على أن توصف بالسيطرة الاسمية، تبرّؤاً من أية تبعاتٍ محتملة.

وسوى «كونيكو» و«العمر» عجزت الهيئة، والنصرة، عن السيطرة على منشآتٍ نفط أخرى، إلا على نطاقٍ محدودٍ ومؤقتٍ. إذ رفضت معظم القوى والمجموعات العشائرية تسليم آبارها للهيئة، متذرّعةً بأنها تقاتل النظام هي الأخرى، وتنفق جزءاً من الواردات في الصالح العام، وبأنها ليست ضدّ مشروع الهيئة المركزية في توحيد السيطرة، لكنها لا تريد أن تكون أوّل من يسلّم آباره.

كانت ردود العشائر على طلبات الهيئة المركزية بتسليم الآبار متشابهةً؛ فتقول عشائر الطيّانة: خذوا آبار ذيبان أولاً، وتقول عشائر ذيبان: خذوا آبار الشحيل أولاً، ويقول الجميع: متى تأخذون آبار الشعيطات؟

وذهبت بعض المجموعات والعائلات العشائرية أبعد من ذلك، لتؤسّس هي الأخرى، بفصائل جيشها الحرّ الخاصّ، هيئاتٍ شرعيةً وجبهاتٍ ثوريةً وجيوشاً وتجمّعات مجاهدين. وعملت على توسيع دائرة المستفيدين من النفط داخل العشيرة، لرصّ الصفوف أمام أيّ تهديدٍ محتملٍ قد تشكّله الهيئة الشرعية المركزية.