معارك تنظيم الدولة في دير الزور.. من الحرب العمودية المركّزة إلى الحرب الأفقية المضطربة

على مدار السنة والنصف الماضية خاض تنظيم الدولة الإسلامية، منذ سيطرته على دير الزور، العديد من المعارك ضدّ قوّات النظام التي تسيطر على بعض أحياء المدينة وأطرافها، وتحيطها بقطعٍ عسكريةٍ أهمّها المطار ومعسكر الطلائع واللواء 137. كان بعض المعارك دفاعيّاً، كما في نهاية 2014 في حيّ حويجة صكر، وأغلبها هجوميّ، كما في معركة الجبل جنوبيّ المدينة ومعارك المطار، وبعض نقاط التمركز الأساسية في الأحياء الطرفية كما في حيّ جميّان. ولكن يجمعها الوصف بأنها معارك مركّزة.

حاول التنظيم في معاركه الأولى إحاطة قرار التجهيز للمعركة بسرّيةٍ تامة، لكن الأخبار كانت تتسرّب رغم هذا بسبب الحشد الضخم لها وعدم تشتيت الجهود في اشتباكاتٍ جانبية. وقد دفع فقدان عنصر المفاجأة التنظيم أكثر من مرّةٍ إلى شنّ حملات اعتقالٍ متعدّدةٍ بدعوى البحث عن أعوان النظام. لكنه مع الوقت، ولاستحالة السرّية، راح يبثّ خبر التجهيز للمعركة عن طريق عناصره أنفسهم، الذين كانوا يخبرون الأهالي أنه "بي عمل"، دون ذكر تفاصيل أخرى. وصار يلجأ في بعض الأحيان إلى حشد السلاح الثقيل والعتاد، قبل أيامٍ، في أماكن بعيدةٍ عن أرض المعركة المقرّرة، لتشتيت الخصم. ولكنه، في المقابل، كان يحشد للمعركة أحياناً متانياً وبوضوح، دون أن يترك مجالاً للشك في مكانها، مع الاحتفاظ بسرّية توقيتها، مما كان يتيح للطرف الآخر حشد السلاح والذخائر والعناصر بتأنٍّ مماثل.

إن الأجواء التي يفرضها التنظيم قبل المعارك في دير الزور، والتي يسود فيها الهدوء التامّ لعدّة أيامٍ، والتحرّك المريب، وإبلاغ العناصر، واستنفار الطاقات، ورفع أهبة الاستعداد على كافة المستويات؛ كانت توحي (أو تحاول أن توحي؟) أنها مقدّمةٌ لمعركةٍ بين جيشين متكافئين. كما أن تلك الدلالات لم تقتصر على جوّ ما قبل المعركة، بل كانت تتعدّاه إلى وقتها ذاته، إذ إن الاشتباكات تنحصر بالجبهة المشتعلة فقط، بعد المفخخة التمهيدية بالطبع، فيما تعيش الجبهات الأخرى في هدوءٍ تامّ، معزولةً عن الأعمال القتالية، ولا يسمع فيها صوت رصاصة.

بدا واضحاً من صدّ النظام للهجمات الكبيرة والمتكرّرة أن معرفته قرار المعركة ومكانها أتاحت له أن يتجهّز لها جيداً، كما يلاحظ العديد من عناصر التنظيم المحليين بقولهم "الجيش يستنانا"، الجملة التي كانت حاضرةً عقب كلّ معركةٍ تقريباً. كما أفاد عددٌ من عناصر الجيش الحرّ (المناصرين) بأن حيّ الجبيلة، الذي حيّد لفترةٍ طويلة، على سبيل المثال، كاد أن يكون خالياً من قوّات جيش النظام أثناء أكثر من معركة، واستبدلت به الشرطة على أكثر من جبهة. كما أن لجوء طرفي النزاع إلى سحب الكثير من قوّاتهما في دير الزور باتجاه الحسكة، منتصف 2015، لخوض المعركة هناك، كانت له دلالةٌ كبيرةٌ على صعيد شكل المعارك التي يخوضانها، إذ بدا أنهما حيّدا دير الزور في تلك الفترة، وذهبا للاقتتال في مكانٍ آخر.

على أن نمط المعارك التي وصفناها توقف مع معركة البغيلية منذ شهرين. إذ تبدو معارك التنظيم في دير الزور اليوم مشتتةً دون تجهيزاتٍ ضخمةٍ أو هدفٍ معيّنٍ تحاول أن تحققه. ففي الأيام الفائتة لجأ التنظيم إلى فتح معارك جزئيةٍ صغيرةٍ تنتقل الاشتباكات فيها من محيط المطار إلى حيّ هرابش شرقاً وفندق فرات الشام غرباً عن طريق انغماسيين، ثم لتنتقل إلى أحياء العرفي والجبيلة والحويقة والرشدية ثم الصناعة والرصافة. تتخلل ذلك اشتباكاتٌ تشمل كافة جبهات المدينة، وبعض المفخخات هنا وهناك، وقصفٌ باتجاه الأحياء الخاضعة للنظام. بالتزامن مع أخبارٍ تفيد أن سيارات التنظيم تجوب الريف وتحضّ الأهالي على (الجهاد) عبر مكبّرات الصوت، ما حمل العديد من مقاتلي الحرّ على الاعتقاد أن تخبّط تلك المعارك جاء بسبب قلة العنصر البشريّ في التنظيم، ما يدفعه إلى خوض اشتباكاتٍ بسيطةٍ وموزّعةٍ بتكلفةٍ قليلةٍ من ناحية العناصر والسلاح. مع ملاحظة أن التنظيم، وفي خضمّ هذه المعارك، دفع بتاريخ 25 آذار بأكثر من مئة عنصرٍ من المدينة باتجاه تدمر، ما قد يفسّر المعارك بأنها محاولةٌ لتشتيت الانتباه وتخفيف حدّة الهجوم هناك، خاصّةً في ظلّ إصرار النظام على استرجاع تدمر.

من غير المعروف سبب التغيّر الأخير في نمط معارك التنظيم في دير الزور، ولكن المؤكد أنه إذا كانت المعارك القديمة توحي بتفاؤله واعتداده بـ"دولته" فللمعارك الأخيرة طابع الانكسار والخيبة وعدم التركيز.