غنائم الكتب تحت جسر الرئيس

«إلى الأخ الأستاذ محمود: بمناسبة المنزل الجديد، وعذراً، فلا أعرف هدية خيراً من الكتب.

دمشق 5 أيلول 1969».

رغم العقود التي مرّت على الهدية، حفظ الغلاف المتين صفحة الإهداء والصفحات الأخرى من كتاب الملل والنحل للشهرستاني الذي اختاره صديقٌ ما، بتوقيعٍ لم يحدّد الاسم بدقة، هديةً لصديقه محمود.

تؤنس قراءة الإهداءات على الكتب المستعملة قارئها، حتى لو كان تحت جسر الرئيس، أحد أشد الأمكنة وحشةً وتعبيراً عن سورية اليوم، وسورية الأمس، منذ أن دشنه عبد الرؤوف الكسم، رئيس الوزراء في منتصف ثمانينات القرن الماضي، نيابةً عن حافظ الأسد الذي حمل الجسر في وسط دمشق اسمه. لم يتغيّر في هيئة الجسر طوال تلك السنوات شيءٌ تقريباً، غير طلاء أعمدته وحوافه مؤخراً باللونين السماويّ والأبيض المصفرّ، في بادرةٍ تجميليةٍ من الفرق الشبابية المؤيدة للنظام. وعلى الضفة الشمالية من نهر بردى، وراء الرصيف، قام طلاب كلية الفنون بقصّ الأشجار ونحت جذوعها وأسفل سوقها، في مشروعٍ تطوعيٍّ ولاءً لسورية الأسد.

تحت الجسر أربع بسطات كتب، ثلاثٌ منها لبائعين من ما قبل الثورة، والرابعة لعبد الله، الأربعينيّ المتشيّع الهارب من دير الزور إلى دمشق عام 2012، بعد أن لوحق بشبهة ارتباطه وتجسسه لصالح المخابرات. وفي هروبه، أو «نزوحه إلى الشام»، استأنف مهنته السابقة في بيع الكتب. على رأس الجسر الصغير في دير الزور كان عبد الله يعرض كتباً دينيةً فقط، سنّيةً وشيعيّة، في الفقه والتفسير والحديث، مع بعض العناوين في البرمجة اللغوية العصبية الرائجة آنذاك. تضخمت أعمال عبد الله اليوم بغنائم جنود الأسد من غزواتهم إلى مدن الريف الدمشقيّ الثائر ثم المهجّر. يتوقف عنصرٌ من «الدفاع الوطنيّ» بدراجته النارية: «كيفك يا حبيب.. تعا استلم هالرزق من داريا»، كيسٌ كبيرٌ من الكتب يتعاونان على نقله جانباً للتفاوض. يقرّر عبد الله: «10 آلاف». يعدّها فوراً، مع استطلاعٍ سريعٍ لمحتويات الكيس الذي اصطفّ بجانب أكياس أخرى، كلها على الأرجح غنائم حربٍ من مكتبات الجوامع أو المكتبات الشخصية في البيوت.

ربما قتل الأستاذ محمود الذي أهدي إليه الكتاب بغارةٍ جويةٍ أو بصاروخ، وربما مات قبل وقتٍ طويلٍ وظلت مكتبته لدى وارثيه ذكرى من روحه، أو أنه نزح هو الآخر إلى مكانٍ ما في البلاد أو خارجها، بعد الثورة، أو بعد الأزمة، أو بعد المؤامرة التي دبرتها الدول الكبرى كما يقول عبد الله وبعض زبائنه حين يطول وقوفهم وتنفتح شهيتهم للحديث في الشأن العام. «اقرأ منذر الدقاق في كتابه حصاد السياسة»، ينصحني كهلٌ دمشقيٌّ، «لتعرف شو رتبت الدول الكبرى لسوريا من سنين». أجاريه طبعاً وأنا أحاول دفع ثرثرتنا العارضة نحو أيّ ثرثرةٍ أخرى، قبل أن يأخذ بكاءٌ مفاجئٌ من عجوزٍ جالسٍ على الرصيف انتباهنا: «ماتت أم ولادي، وبنتي، بالقصف»، قال العجوز الذي كفّ عن البكاء بسرعةٍ مع اهتمامنا بقصته، ومع كأس الشاي التي طلبها عبد الله، ليغادر مسرعاً دون أن نسأله أين ومتى قتلت زوجته، كأنها ماتت قضاءً وقدراً.

بالرغم من الشبهات التي تلاحق بائع الكتب -إلى درجة أن ورد اسمه كعلمٍ من أعلام التشيّع في دير الزور في دراسةٍ ترصد هذه الظاهرة في المحافظات السورية- الا أنه ظل محافظاً على تهذيبٍ أصليٍّ في طبعه، يبدي تعاطفاً مع «الديريين» عاثري الحظ في الشام، ومع غيرهم، حين يفاوض بعض حاملي «كراتين» الكتب الصغيرة المرتبكين خجلاً من بيعها. اشترى مثلاً «إحياء علوم الدين» ناقصاً أحد أجزائه دون حاجته إليه، مع وجود نسخٍ أخرى للإحياء في حوزته، وردته مرّاتٍ ضمن ما يأتيه من الغنائم التي تحمل طيفاً واسعاً من العناوين، الدينية في معظمها، دون أن تخلو من رواياتٍ وشعرٍ وفلسفةٍ ومذكرات، ومجلاتٍ قديمةٍ متسلسلة الأعداد. ولا يبالي بعرض الكتب الممنوعة منها للبيع، لسيد قطب والندوي والمودودي وحتى ابن تيمية، أو في السحر مثل «شمس المعارف الكبرى» أو «خصائص الأحجار الكريمة»، أو في التاريخ السوريّ المعاصر.

من بين أكوام الكتب المنهوبة يحرص عبد الله على فرز المصاحف ووهبها لأيّ شخص، تعظيماً لها من العرض على الرصيف. وبالمجان يمنح الدفاتر لأيّ مهتمٍّ بها، مهما كانت؛ مفكرات، دفاتر مدرسية، حسابات دين جاري، يوميات شديدة الخصوصية لبشرٍ لم يظنوا يوماً أن أسرارهم ستتبعثر على الأرصفة دون أن يأبه بها أحد.
في عيد الأم، في العام 1998، كتبت شابة في دفتر مذكراتها «بعيدك يا ست الحبايب، قرينا ختمة، وساوينا حسنة على روحك...ماما لساكي معنا، لكن من رحتي صار بيتنا فارغ وبارد...»