دولة التلاعب...

صدر هذا الكتاب عن دار رياض الريّس في بيروت ولندن، عام 2012، بترجمة لما العزب. ولعلّ من الجمل المفتاحية لفهم رسالته قول المؤلفة: «يقود بشار الأسد مقاومةً خطابية، لكنه لا يتردد في البحث عن حلولٍ وسط للحفاظ على نظامه».

مع انقلاب حافظ الأسد في 1970 (الحركة التصحيحية)، انتقل السوريون من «سورية البعث» إلى «سورية الأسد». فبالتدريج، فقد الحزب دوره الأيديولوجي وأصبح مجرّد جهازٍ للسيطرة على المستويات المحليّة وفي كلّ القطاعات، وأدّى دور حكومة الظلّ. أما مجلس الشعب فلم يعد إلا «منتدىً استشارياً» وملتقىً لبناء شبكةٍ من العلاقات والحفاظ عليها، وللفت انتباه صنّاع القرار إلى بعض المشاكل المحلية، بعد أن غدت السياسة العليا حكراً على الرئيس، الذي أصبح يمارس السلطتين التنفيذية والتشريعية في آنٍ واحد. وقد استعمل النظام سياسته الخارجية حجةً لتبرير أوجه الخلل الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما حرمان السكان من حرياتهم العامة، وحقوقهم الاقتصادية.
وبينما يمكن تلمّس ملامح النظام الديكتاتوري التسلطي بسهولةٍ في آليات حكم حافظ الأسد، فإن نظام ابنه صار أشبه بسلطنةٍ متعددة مراكز النفوذ، التي يقف على رأسها بشار، باعتباطيةٍ ميّزت سنوات حكمه وقراراته. فعندما وصل الوريث إلى السلطة أعلن عن رغبته في معالجة الملفات الداخلية التي أهملها والده، وكان الإصلاح الاقتصادي في قلب سلّم أولويات الإصلاح المفترض. ففتحت دمشق أبوابها لبعثة مراجعة ماليةٍ فرنسية، ووضع الاتحاد الأوروبي برنامجاً لإعادة تنظيم المصرف المركزيّ السوريّ، ودُعي عددٌ من السوريين، من حاملي الشهادات العليا في الاقتصاد والإدارة من الجامعات الأمريكية والأوروبية، والخبراء الذين عملوا في منظماتٍ دوليّةٍ مرموقة، إلى العودة إلى البلاد وتسلّم مناصب كبيرة، ولا سيما في حكومة 2001. غير أن هذه الحركة ما لبثت أن كبحت بشكلٍ قاسٍ أورث من تفاءل بها خيبةً مريرة، ولعل أبرز هؤلاء كان الدكتور عصام الزعيم، الخبير في برنامج الأمم المتحدة للتنمية، الذي عيّن كوزيرٍ للتخطيط ثم للصناعة. وقد عمل الزعيم جاهداً على تحسين إدارة شركات القطاع العام، وتخليصها من سيطرة حزب البعث، ووضع آليةٍ لمحاسبة المسؤولين عنها. ولكن ردّ الفعل كان موجعاً، فقد بدأت الصحف الرسميّة حملةً لتشويه سمعة الرجل، وصولاً إلى اتهامه زوراً باختلاس الأموال العامة، والحجز على أملاكه ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
ولم تكن اللجنة الاقتصادية في القيادة القطرية لحزب البعث هي العامل الأهم في هذا النكوص، وإن برز دورها فيه إلى الواجهة، بل كانت القوّة الحقيقية لمعارضة التغيير تتمثل في «جمهورية الأصدقاء»، على حدّ تعبير الكتاب، والمكوّنة من مجموعةٍ من «رجال الأعمال» الشباب المحيطين ببشار الأسد وأسرته، وكان أهمهم ابن خاله رامي مخلوف، الذي امتدّت إمبراطوريته الاستثمارية من الاتصالات الخليوية إلى السوق الحرّة والقطاعين العقاري والمصرفي والتنقيب عن النفط والنقل الجوّيّ، متجاوزاً كل القوانين وكلّ القواعد. وإذا كانت صور حافظ الأسد هي ما غطّى جدران المؤسسات والشوارع السورية في الماضي، فإن ما حلّ محلّها هو شعارات شركة سيريتل للاتصالات، كبرى شركات مخلوف، وبشكلٍ يفوق غزارة صور الأسد الابن.
مثّل مخلوف الوجه الاستهلاكيّ لسورية الجديدة، الذي عبّر عنه مستثمرون أقلّ أهمية، كمحمد حمشو، رجل الأعمال الطارئ المحسوب على ماهر الأسد، وسامر العطار، وريث البرجوازية الدمشقية التي تحالفت مع الأسد الأب، وآخرين من أبناء كبار ضباط الأمن الجيش والوزراء ومسؤولي البعث السابقين، استثمروا حتى في مجالي الصحّة والتعليم وتولوا خصخصتهما. في حين كان 30% من السكان يعيشون تحت خط الفقر عام 2005، بحسب إحصاءاتٍ نشرتها الحكومة نفسها.
أما على المستوى الاجتماعيّ فقد تلاعب النظام بالهويات المحلية، من وراء شعاراته المعلنة عن القومية العربية. فإذا كان قلب هذا النظام علوياً، مع واجهاتٍ مدنيةٍ أو عسكريةٍ من الأكثرية السنية، فقد حاول استمالة رموزٍ دينيةٍ من هذه الطائفة لتجنب شعورها بالتهميش الكامل. وأبرز هؤلاء كان مفتي الجمهورية، الشيخ أحمد كفتارو، الذي بدأ التعاون مع الحكم منذ الستينيات، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي فُتح له باب التلفزيون الرسميّ، ومحمد حبش، عضو مجلس الشعب، الذي بدا أقرب إلى السلطة حتى من نسيبه المفتي.