دمعةٌ على خدّ نازح

"عندما كنت في المعتقل، في ثمانينيات القرن الماضي، كنت أتصوّر أن حياتي ستنتهي فيه. آل الأسد سيبقون في السلطة، ونحن سنموت في السجن". كان أبو محمد يسترجع هذه الذكرى في ذهنه وهو مطرق الرأس عائداً إلى منزله. الآن يعتقلني همٌّ لانهائيٌّ: الأطفال ومستقبلهم، تأمين مازوت الشتاء، سداد الديون، تأمين لقمة العيش، افتقادي للأصدقاء.

يقترب أبو محمد من المنزل. لو يستطيع بخطوةٍ أن يكون في الداخل! تحرقه الشمس وظمأ شديدٌ يجتاحه. تعبٌ مرٌّ يعيقه ورغبةٌ عارمةٌ في فنجان قهوة. يتذكر مقطعاً لممدوح عدوان، أو ظنّ أنه له: "بخبثٍ أبيض، تمنيت لو أنه يموت قليلا لأعرف طعم الحياة من بعده. لكن خيبات الشيخوخة المبكرة، والمدن المحتلة في الهزائم، علمتنا أن الأشياء الجميلة لا تعود أبداً إن ذهبت...". يدخل المنزل محطماً، يائساً. ما هذا العالم الذي يتنفس التفاهة والبؤس والألم! يتمدّد على أرضية الغرفة. يستعيد توازنه، يحسّ بالهدوء. يفكر بالكتابة. منذ أسبوعين وهو يحاول أن يكتب شيئاً. يفكر كثيراً، يتردد، ثم يعاود التفكير. الكتابة من أصعب الأمور. إنها أشغالٌ شاقة. هي كلّ الأعمال المستحيلة لإعادة بناء العالم من جديد.

يتذكر أيامه الأخيرة في سجن حلب المركزي. قام السجناء والمعتقلون السياسيون بمحاولةٍ للاستعصاء، ثم تطوّرت إلى محاولةٍ للهروب من السجن. كان ذلك في منتصف 2012. قُتل من قُتل من السجناء، ثم بدأ الانتقام الرهيب من قبل عناصر النظام. كان أغلبهم من لونٍ طائفيٍّ واحد. جاؤوا بشابٍّ ملتحٍ وأخذوا يضربونه بالشحاطة على وجهه بقسوةٍ عشرات الضربات، وهو يتأوّه بصوتٍ خافت. كان أحد الحرّاس يقف مراقباً المشهد، وجهه يعبّر عن الحزن والتعاطف، وكان يشعر بالذل والمهانة. بعد أن انتهوا من تعذيب السجين طلبوا منه أن ينضم إلى زملائه ويهتف معهم ذلك الهتاف الذي رسم ذلّ الشعب السوري: "الله، سوريا، بشار وبس!".

يرتشف أبو محمد كوباً من الماء. تأتيه ابنته بالقهوة. يغمض عينيه. يتذكر مقاطع من قصيدةٍ لعلي الجندي: "قد تضيق العبارة، لكن قهوته في الضحى المشرئب افتتاحٌ وفتحٌ. وقد يستقي النار من قطع الثلج في الماء، أو يرتقي السحب البيض من تبغٍ أسود. قد ينام، ولكن مع الفجر، معتنقاً حلماً للفتوّة. قد يقذع القول، لكن كفيه غضَّان". صحا من تأمله، ارتشف قهوته بلذةٍ. ومع عددٍ من لفافات التبغ عاد لممارسة ألمه المعتاد. كان يفتقد الأصدقاء ويحنّ إلى المقهى في حلب. منهم مَن غادر إلى تركيا، ومنهم من انقطعت أخباره في رحلة التيه السورية. عندما ذهب إلى عنتاب في نهاية شتاء هذا العام، في زيارةٍ قصيرة، التقى بعددٍ منهم. انتعشت روحه لمرآهم، لكنهم أثاروا حزنه في نفس الوقت. بدوا له غرباء، علاقاتهم ببعضهم مفككة، وكلٌ يبحث عن بقائه. عندما رجع إلى قريته كان كمن زُجّ ثانيةً في السجن! عاد ليجترَّ آلامه وبؤسه ووحدته. صحيحٌ أنه يخالط الناس ويلتقي بهم ويسهر معهم ويناقشهم، لكنه كان وحده. كان دائماً يردّد بيتاً من الشعر لسعدي يوسف: "أمشي مع الجميع وخطوتي وحدي!". عاد بذاكرته إلى المقهى الذي كان يرتاده أيام الجمَع وفي بعض المساءات الجميلة. كان الأصدقاء يتجمعون على طاولة واحدة ويثرثرون في مواضيع شتى. وحين يتوقف الكلام قليلاً كان المرحوم أبو جهاد يسأل: ما العمل؟ يضحك أحد الأصدقاء ويقول: سؤالٌ بسيطٌ جداً لكن العالم كله لا يستطيع الإجابة عنه!! تداهم الظهيرة أبو محمد بحرِّها القاتل. يمشي في الغرفة جيئةً وذهاباً، كما في أيام المعتقل، لكنه يشعر بالحرية. يحاول أن ينام قليلا، لكن عبثاً! يأتي المساء. يهاجم القنوات الإخبارية كلها: استشهد العشرات في دوما؛ مجزرة في إدلب؛ اقتحام سجن حماة المركزي لفضّ استعصاء السجناء. يستمع إلى عددٍ من المحللين السياسيين يكرّرون كلام مملاً. يغلق التلفاز ثم ينام.

في الصباح، عندما جاءت ابنته بفنجان القهوة، لم يتحرّك. شاهدت على خدّه الأيسر دمعةً. وإلى جانبه قرأت ما كتبه قبل أن يموت، أبياتاً لمحمود درويش: "وحاربتُ وحدي، انتصرتُ على الخوف. وسأحارب من أجل مملكة البصل الأخضر والبقدونس الذي ينمو في حوضٍ صغير، من أجل حقّ الناس في النوم في الساعة التي يريدونها، وحقهم في الحلم بلا خوفٍ وآلة تسجيل. سأحارب من أجل تحليل الأحزاب وتحريم الحزب الواحد...".