الواجب الأخلاقيّ والواجب الوظيفيّ لدى تنظيم الدولة الإسلامية

قبل معاركه الأخيرة على جبهة العمال والبريد في مدينة دير الزور كان تنظيم الدولة قد جهّز طاقماً من المسعفين ووضعه على أهبة الاستعداد لنقل المصابين في الاشتباكات أو القصف. لكنه، ومنذ اليوم الأوّل للمعارك، اكتشف فشل تلك الخطة التي هدفت، على ما يبدو، إلى حصر العمل بالمتخصّصين والمسؤولين أمامه، أو الذين توجب عليهم أجورهم أن يعملوا لقاءها.

قد تبدو فكرة العمل مقابل المال هذه تحليلاً بقصد التشويه لولا تأكيدات عاملين في مشفى فارمكس على أن هذا ما أراد إيصاله إليهم المسؤول الماليّ في ديوان الصحة، مصريّ الجنسية. فقد طلب منهم الالتزام بأوقات الدوام المخصّصة لهم فقط، وترك العمل الطوعيّ لساعاتٍ طويلةٍ خارج وردياتهم، وذلك بعد اعتراضهم على إلغاء نظام المكافآت التي تتكفل بها منظماتٌ خيرية. وقد حاول البعض أن يقنعه أن عملهم يعتمد على المبادرة والضمير رغم وجود تنظيمٍ شكليٍّ للورديات وتقاسمٍ للعمل، وأن التقسيم الصارم للعمل لا يمكن تطبيقه في الحروب، خاصّةً في مهنة الطب، لكنه رفض التراجع.

رغم وجود هيكلياتٍ للعديد من العاملين الذين حاولوا سدّ الفراغ الذي أحدثه غياب عمل الدولة السورية، لكن هؤلاء اعتمدوا على النخوة والأخلاق الذاتية والاجتماعية في تسيير الأمور. وهو ما يفسّر اتهامات الأهالي الحكومة المؤقتة بالسرقة حين لم تنجح في الاستفادة من "المخلصين". ورغم اتصاف العمل الطوعيّ المعتمد على النخوة بالكثير من الفوضى، واستغلاله وتجييره من قبل الكثيرين، إلا أن أحداً لم يستطع إيجاد بديلٍ له. فتنظيم الدولة، الذي فرض حظر التجوال أثناء المعارك، بدأ يرخي قبضته في هذا المجال، وراحت دورياته تتسامح مع الشباب الذين يخرجون بعد القصف لتقديم المساعدة (قسم من هؤلاء كانوا ناشطين أو مقاتلين في السابق). كما أن عناصر "الشرطة الإسلامية" الذين كانوا يطوّقون مكان القصف لمنع الاقتراب والتأكد من أن النساء في المكان المتضرّر لا يكشفن وجوههنّ، أصبحوا يفسحون المجال لتدخل شباب الجوار للإسعاف، خاصّةً بعد انتفاضات المتجمّعين بعد القصف عند وجود ضحايا كثرٍ وتأخر سيارات الإسعاف وتنصّل بعض المسعفين من مهامّه تحت ضغط الخوف.

ولا يقتصر الأمر، عند أمراء التنظيم، على الكادر الطبيّ في توزيع الواجبات وقصرها على العاملين لديه، وتطبيق مبدأ العمل مقابل المال؛ بل يشمل جميع العاملين المدنيين غير المبايعين في الوظائف الإدارية والخدمية. ولعلّ مصطلح "مرتزقة"، الذي يطلقه أمراءٌ كثرٌ على أولئك العاملين، خير دليلٍ على ذلك، رغم أجور هؤلاء الزهيدة بالمقارنة مع أجور عناصر التنظيم، واستثنائهم من مزايا عديدةٍ يتمتع بها الأخيرون. على أن اعتماد التنظيم على غير المبايعين يراه قادته على أنه حاجةٌ مرحلية، إذ يتمّ التخلي عن الموظفين متى توافر مبايعٌ يستطيع القيام بعمله مكانه.

عندما بدأ جيش النظام هجومه على حويجة صكر، في نهاية العام الفائت، توجّه مدنيون ومقاتلون سابقون في الجيش الحرّ إلى الحويجة لصدّ الهجوم وإسعاف الجرحى ومدّ يد العون، خاصّةً أن عناصر التنظيم لا يعرفون شيئاً عن الأرض هناك. وبعد امتصاص الصدمة الأولى للهجوم قام أمنيون من التنظيم باعتقال بعض الذين دخلوا ومضايقة البعض الآخر. وكاد الأمر أن يكون أكثر سوءاً لولا تدخّل عناصر من التنظيم قاتل إلى جانبهم أولئك المعتقلون. وقد تكرّر الأمر في أكثر من جبهةٍ، حتى أن عدداً من الأمراء منح بعض الشباب وضعاً استثنائياً وخاصّاً ولم يمنعهم من المشاركة في القتال، كما لم يلحّ عليهم للبيعة.

نظرياً، يربط منظرو التنظيم عمل عناصره وموظفيه بالأخلاق، مستندين إلى فكرة "مورّثات الصلاح في الأمة"، لكنهم يحصرونها بعناصرهم ويجعلونها حكراً عليهم. وقد أكد أكثر من شخصٍ حضر دورةً شرعيةً أن الشرعيين يسخرون من مقولة المتصوّفة عن عبادة الله بدافع الحبّ لا خوفاً ولا طمعاً، فهو مبدأٌ كاذبٌ -بحسب هؤلاء الشرعيين- لأن الإنسان يجب أن "يعبد الله طمعاً بالجنة وخوفاً من النار". وفي محاولة القادة لضبط العناصر ضبطاً كاملاً يلجأون -من ضمن أشياءٍ أخرى- إلى إجبارهم على القسم على أن يغيّروا المنكر (المخالفات التي يحدّدها قانون التنظيم). وتحت وطأة هذا القسم سلّم البعض آباءهم أو إخوتهم المدخنين، وصار البعض الآخر يراقب نساء عائلته.

قد تكون محاولات التنظيم لصناعة الأتباع، واستبعاد من يرفض التبعية، استجابةً أو انعكاساً لهوس قادته بإقامة "دولة"، كما يحلل البعض، ولكن هل التنظيم هو المسؤول الوحيد عن ذلك؟