- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
الماشية في ديرالزور.. عود على بدءانهيار تربية الأبقار والعجول والنجاة بالأغنام
لم تكن سيطرة النظام الأخيرة، والميليشيات المرافقة له بدعم من روسيا، على ديرالزور حسماَ عسكرياَ وحشياَ فحسب، بل إيذاناَ ببدء مرحلة جديدة، بدأت في الذي أنجزه المهاجمون على الأرض من إعادة شق المحافظة الواقع جنوب النهر إلى مرحلة الصفر سكانياَ، لإعادة هندستها اجتماعياَ فيما سيأتي من الأيام. على أن ذلك سيتقاطع، قطعاَ، مع المعطيات الجديدة لاقتصاد المحافظة، الذي استطاع أن ينجو بأحد أقدم عناصره البدائية، والمتمثل بتربية الأغنام، ولكن بصورة حيازات كبيرة، استشعر قسم كبير من أصحابها الخطر في وقت مبكر، فهربوا بثرواتهم بعيداَ عن المعارك التي كانت تقترب باستمرار، بينما خسرت المحافظة، تدريجياَ، القسم الأعظم من تربية الأبقار والعجول، المرتبطة بأوضاع أمنية مستقرة، وأسواق كبيرة على هوامش المدن.
مع اقتراب المعارك ثم سيطرة النظام وأعوانه
تنقل مصادر أهلية عن أصحاب قطعان كبيرة من الأغنام، بدأوا بنقل ثرواتهم من بادية الشامية جنوبي النهر إلى بادية الجزيرة شماليه، أن تلك العملية نشطت منذ بداية العام 2017 بسبب التمدد الذي أحرزته هناك قوات النظام والميليشيات المساندة له، وباقترابهم من ديرالزور، منذ بداية الربع الأخير من العام ذاته، كانت قد انتهت فترة الرعي في بادية الشامية، وتمتد بين شباط وأيار، ولكن المعارك على طريق دمشق ديرالزور منذ أيلول، وما تلاها من قصف شمل أجزاء متفرقة من الريف، أقنع آخرين بالانتقال إلى الضفة الأخرى، من مربي الأغنام من أصحاب الحيازات المتوسطة بقصد التجارة، أو الصغيرة بقصد الأمن الغذائي الأسري. في ذلك الوقت اتخذ المربون والأهالي إحدى طريقتين لنقل مواشيهم إلى أراضي الجزيرة، الأولى عبر السفن لقاء 500 ليرة سورية عن الرأس، أو التوجه إلى جسر الرمانة في العراق، قبل أن يسيطر عليه الحشد الشعبي.
على أن ذلك لم ينجح في نجاة جميع المربين بمواشيهم، ما دفع الكثيرين للتخفيف من تلك الممتلكات عبر البيع، بحسب بيطريين وقفوا على تلك الظروف، حتى وصل سعر الكيلو الواحد من اللحم إلى 800 ليرة سورية، كما وصل الانخفاض التدريجي، المتناسب طرداَ مع اقتراب المعارك، في الأسعار إلى حدود غير مسبوقة، حتى وصل سعر العجل في بعض الأحيان إلى 50 ألف ليرة سورية (مئة دولار أمريكي) في حين كان سعره في الظروف الطبيعية يقارب 300 ألف ليرة، كما بيعت أبقار في محيط البوكمال بسعر يتراوح بين 100 و120 ألف ليرة، بعد سيطرة النظام وأعوانه على مدينة الميادين، بينما سعرها الحقيقي يصل إلى 800 ألف ليرة سورية، بحسب تاجر ومربي عجول.
كان للحيوانات نفسها، وطبيعة أجسامها وبنيتها، تأثير على مصيرها، فالسهولة التي تتحرك بها الأغنام، وتتنقل بها بالتالي، جعل قسماَ كبيراَ منها ينجو أثناء القصف، وقبل وصول القوات المهاجمة إلى المنطقة، أما صعوبة تحرك الأبقار والعجول وتنقلها، فدفع الكثير من مربيها، خاصة لأسباب تجارية في محيط المدن، لتركها في خاناتها (الأماكن المخصصة لتربيتها). ويروي العديد من هؤلاء حكايا عن اللحظات الأخيرة التي عاشوها في البوكمال، أو الميادين أو غيرها، حين كان الحل الوحيد أمامهم هو فتح أبواب الخانات أمام الحيوانات لإفساح المجال أمامها للوصول إلى مرعى مناسب، في حال لم يستطع أصحابها العودة في وقت قريب، بينما لجأ قسم منهم قبل مغادرة المنطقة إلى تسييب أبقارهم وعجولهم في الحوايج المنتشرة في نهر الفرات، حيث يتوفر المرعى الملائم، وتركها لقدرها، وفي حالات حيازات صغيرة ذبح البعض حيواناتهم، ووزعوا لحومها على الأقارب والمعارف والجيران.
الاقتسام لصالح القوى المسيطرة والمناطق المستقرة
بدأت ميليشيات النظام، منذ سيطرتها على جنوني النهر في ديرالزور، بنقل ما تركه الأهالي والمربون والتجار من ماشية في المنطقة، بالتحديد الأبقار والعجول، وبحسب البعض من المربين والتجار فإن فئاتهم هي الأكثر تضرراَ. ففي مدينة الميادين، صاحبة السوق الأكبر للمواشي في ديرالزور، خسر تجارها ومربو العجول والأبقار فيها مايقارب 20 % من ماشيتهم، لصالح التعفيش، بعد سيطرة النظام والميليشيات، رغم أن اضطراب الفترة الأخيرة خفض أعدادها إلى النصف. ويحوي سوق الماشية ومحيطه مايقارب المئتي خان، تبلغ طاقتها الاستيعابية في الحالة الطبيعية عشرة آلاف عجل وبقرة، بحسب تقديرات تجار ومربين، فيكون عدد الأبقار والعجول التي بقيت في سوق الميادين ومحيطها عند سيطرة النظام مايقارب ألف رأس.
ويلجأ ضباط لدى النظام وقادة ميليشيات إلى ترصد سيارات شحن تحمل لوحات رقمية من ديرالزور في محافظات أخرى، ويعمدون عند الوقوع على الشاحنات الكبيرة إلى مصادرة أوراق السيارة وثبوتيات السائق، وإجبار الأخير على العمل في (التعبئة)، أي نقل الذخيرة من تلك المحافظات إلى ديرالزور، ونقل الغنائم بالعكس، ومن ضمنها الأبقار والأغنام، وفي نهاية العملية يُسدد للسائق ثمن الوقود الذي تستهلكه الرحلة، بحسب البعض ممن يتابع رحلة ممتلكاته بين المحافظات للجوء إلى شرائها عندما تصل إلى السوق. وتذهب الماشية غالباَ إلى سوق دمشق أو حمص لاستهلاك لحومها، أو سوق حماه وحلب لاقتنائها من قبل مربين آخرين هناك.
في المقابل ذهب قسم من الماشية، ودائماَ الأبقار والعجول، باتجاه آخر، ففي الوقت الذي صار القسم الأكبر من السكان يبحثون عن التخفف من ممتلكاتهم، أو تحويلها إلى سيولة مادية، لتحمل أعباء رحلة الهروب، نشط تجار من محافظة الحسكة في شراء رؤوس الماشية من ديرالزور، عبر تصريحات خاصة أصدرتها سلطات الإدارة الذاتية لتسهيل الحركة والتنقل والمرور من الحواجز، بحسب طبيب بيطري يعمل متنقلاَ في المنطقة، ويفيد أن قسماَ من تلك المواشي يذهب إلى «مزارع الحزب» [pyd] في مدينة المالكية وتل تمر وغيرهما، عبر مندوبين معتمدين يشترونها من الأسواق الخاصة في منطقة الجزيرة في ديرالزور، وقبلها من الشامية، رغم سيطرة تنظيم الدولة على مناطق تقع فيها بعض تلك الأسواق، وبموازاة ذلك كان للضرائب حظ وافر من قطعان الماشية التي وصلت إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، كما أرهق الترفيق تلك القطعان، فسقطت أعداد كبيرة من الرؤوس في التجوال الطويل، في ظروف لم يراعَ فيها الإنسان. وبذلك استنفذت ماشية البوكمال، التي يقدرها تجار بنصف مليون رأس، بعد أن كان قد أنهكها التهريب باتجاه الأردن والسعودية، عبر محيط مخيم الركبان على الحدود الأردنية، منذ أكثر من سنة ونصف، وباتجاه العراق منذ سنوات عدة.
AFP_Getty
ماتجمعه الريح
انخفضت أعداد الماشية بنسبة 30 إلى 40% في مجمل سوريا، بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة fao، في نهاية العام الفائت، على أن تلك النسب لا تعبر عن ديرالزور، فبحسب أكثر من طبيب بيطري فإن المحافظة خسرت مايقارب من ثلثي مواشيها، فذهب الثلث لمناطق الإدارة الذاتية، والثلث الآخر لمناطق النظام، لكن الخسارة في الأبقار والعجول هي الأكبر، ففي قرية حطلة لوحدها شمال مدينة ديرالزور انخفضت الأبقار والعجول، عبر النفوق والبيع المستمر والسرقة، من حوالي 20 ألف رأس منذ سبع سنوات إلى الألفين تقريباَ اليوم، كما يقول طبيب بيطري من هناك. ويعبر عن تلك المحصلة مبكراَ مصير محطة الأبقار، حيث يفيد نائب مدير المحطة لعام 2012، بأن 930 رأساَ هي محتويات المحطة عندما سيطر عليها الجيش وسرق معداتها، قبل أن تبيع المؤسسة العامة للمباقر مابقي من أبقارها لأهالي قريتي الجفرة والبغيلية، بعد أن كان الجيش قد ذبح قسماَ منها.
تشير آخر الإحصائيات الميدانية التي أجراها مكتب الإحصاء التابع لوزارة الزراعة في العام 2011 أن ديرالزور تقع في المرتبة الثانية في أعداد المواشي بعد حلب، وتحوي على 2597349 نعجة و248387 بقرة وعجل وثور، مع مراعاة التحفظات التي يبديها عاملون في المجال من مهندسين زراعيين أو أطباء بيطريين، حيث لاحظوا تلاعب المربين بأعداد مواشيهم الحقيقة، نقصاناَ أو زيادة، إما خوفاَ من الضرائب، أو طمعاَ بتوزيع الأعلاف.
وبالنظر إلى نقل الثروات (الغنائم) التي سيطر عليها تنظيم الدولة من محافظات سورية أخرى، منذ منتصف العام 2014، إلى ديرالزور والرقة، وغيرهما في العراق، فمن الممكن توقع ازدياد في أعداد الماشية حتى الأشهر الأولى في العام الفائت، ولجأ التنظيم في بدايات سيطرته إلى بيع رؤوس ماشية بأسعار رمزية أو مخفضة. كما افتتح (ديوان الزراعة) مزارع خاصة رعى فيها قطعان مصادرة في حروبه المستمرة، أو تعود لأشخاص استولى على أملاكهم، وخصص (مكتب الرقابة والتفتيش) الخاص به المواد الغذائية التالفة ومنتهية الصلاحية لتلك القطعان، كما يفيد مبايعون سابقون للتنظيم، الذي أصدر قرارات تحد من التصدير منذ بداية العام الماضي، بعد أن بدأت المواشي تتسرب باطراد من مناطقه.