اللاجئون المنسيون:
الناجون من مذبحة صبرا وشاتيلا

سْوي تشاي آنك
موقع News Deeply
15 أيلول
ترجمة مأمون حلبي

عندما ذُبح اللاجئون الفلسطينيون في بيروت عام 1982 كانت كاتبة هذه المقالة، الدكتورة سْوي، وهي لاجئة من أصلً سنغافوري تعيش في المملكة المتحدة منذ 40 عاماً، طبيبة متطوعة في المخيمين. في الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين للمجزرة تصف سْوي ذكرياتها وأسئلتها التي بقيت دون إجابة.

عندما اجتاحت إسرائيل بيروت الغربية، قبل 35 عاماً، دخل رجال ميليشيا مسيحية لبنانية مخيمَي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين في بيروت الغربية. على مدار 3 أيام أغلقت القوات الإسرائيلية المخيمين وسمحت لعناصر الميليشيا بذبح عدة آلاف من اللاجئين. كنت حينها متدربة في مجال الإصابات والكسور قَدِمتْ إلى لبنان لمساعدة أولئك الذين جُرحوا أثناء الغزو الإسرائيلي قبل بضعة شهور. كانت بيروت تحت الحصار. خلَّف الغزو آلاف القتلى والجرحى وشرّد حوالي 100.000 شخص. انتُدِبتُ للهلال الأحمر الفلسطيني لترؤس قسم الإصابات في مخيمَي صبرا وشاتيلا. قابلت فلسطينيين في بيوتهم التي دمرها القصف وعلمت كيف أصبحوا لاجئين في المخيمات في لبنان. تذكروا كيف طُردوا من فلسطين عام 1948، وغالباً تحت تهديد السلاح. لقد فروا بما استطاعوا حمله ووجدوا أنفسهم في لبنان والأردن وسوريا. وضعتهم الأمم المتحدة في الخيام، بينما وعد العالم بعودتهم إلى ديارهم سريعاً. لم يتحقق ذلك الأمل إطلاقاً، وهذه هي السنة التاسعة والستين وهم يعيشون كلاجئين. لقد مُسحت فلسطين عن خريطة العالم. الـ750.000 لاجئ، وهو ما يشكل نصف سكان فلسطين عام 1948، أصبحوا 5 ملايين.

بعد وصولي إلى بيروت بوقت قصير غادرَتها منظمة التحرير الفلسطينية. كان هذا هو الثمن الذي طلبته إسرائيل للتوقف عن القصف ورفع الحصار العسكري عن بيروت. غادر لبنان 14 ألف رجل وامرأة بعد ضمانات قدمتها الدول الغربية بقيام قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات بحماية عائلاتهم التي بقيت في لبنان دون مُعيل. استمر وقف إطلاق النار 3 أسابيع فقط. فجأة انسحبت قوة حفظ السلام. في 15 أيلول دخلت مئات الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت الغربية. شكّل بعضها طوقاً حول مخيمَي صبرا وشاتيلا مانعاً الدخول والخروج وقاطعاً طريق الفرار على السكان. مجموعة من عناصر الميليشيا المسيحية، الذين دربتهم وسلحتهم إسرائيل، دخلت المخيم. عندما انسحبت الدبابات في 18 أيلول كان عدة آلاف من المدنيين قد فارقوا الحياة داخل المخيم، في حين كان آخرون قد اختُطفوا واختفوا. فريقنا الطبي في مشفى المخيم، والذي كان قد عمل طوال 72 ساعة دون توقف، أُمِر تحت تهديد السلاح بترك المرضى والمغادرة. عندما خرجت من غرفة العمليات الواقعة في أحد الأقبية علمت الحقيقة: في الوقت الذي كنا فيه نكافح لإنقاذ بضع عشرات من الأرواح كان الناس يُذبحون بالآلاف.

بعض الجثث كانت تتفسخ في شمس بيروت الحارة. صور المجزرة حُفِرت عميقاً في ذاكرتي. صور تضمنت جثثاً قطعت أجزاء منها. قبل بضعة أيام فقط كانوا كائنات بشرية تضج بالأمل والحياة، ممتلئة بالثقة في أنها ستُتْرك بسلام لتربي أولادها بعد إخراج منظمة التحرير. لقد كانوا بشراً رحبوا بي في بيوتهم المتداعية. قدموا لي القهوة العربية وما تيسر من طعام بسيط لكنهم كانوا يقدمونه بكرم وحرارة. تقاسموا معي حياتهم المحطمة، وأروني صوراً لعائلاتهم في فلسطين قبل عام 1948 ومفاتيح كبيرة لبيوتهم ما زالوا يحتفظون بها. أما النسوة فتقاسمن معي مطرزاتهن الجميلة.

أثناء المجزرة، بعض أولئك لم نفلح في إنقاذهم، وآخرون ماتوا لدى وصولهم إلينا تاركين خلفهم أيتاماً وأرامل. الأطفال الذين شهدوا أمهاتهم وأخواتهم يُغتصبن ويُقتلن سيحملون معهم طيلة حياتهم هذه الرضوض النفسية. الوجوه المذعورة لعائلات تنتظر الموت وهي محاطة بالمسلحين، الأم الشابة اليائسة التي حاولت أن تعطيني رضيعها لأصل به إلى بر الأمان، رائحة الأجساد المتفسخة عندما كُشف عن قبور جماعية، صرخات النسوة اللواتي اكتشفن بقايا أحبتهم من قطع من ملابسهم وبطاقات اللاجئين؛ هذه الذكريات لن تتركني أبداً.

عاد الناجون ليعيشوا في ذات البيوت التي قُتلت فيها عائلاتهم وجيرانهم. ومن ناحيتي ما تزال لدي أسئلة مؤلمة تحتاج إلى إجابات. لماذا قُتلوا؟ هل نسي العالم الناجين؟ لقد سكنتني هذه الأسئلة منذ أن قابلت لاجئي صبرا وشاتيلا لأول مرة. وما زلت بانتظار الإجابة.