الجهاديّ أبو إبراهيم..

عودة الابن الضال

فيرا ميرونوفا وسام ويت وأحمد مهيدي
فورين بوليسي/ 10 آب
ترجمة مأمون حلبي

لأبي إبراهيم، 22 عاماً، شكل طالبٍ جامعيٍّ نموذجيٍّ في أوروبا أو الولايات المتحدة. فهو طويلٌ ووسيم، يرتدي بنطال جينز وتي شيرت، حليق اللحية والشارب مع قَصّة شعرٍ جديدة؛ على خلاف ما كان عليه مظهره السنة الماضية عندما كان له شعرٌ طويلٌ ولحيةٌ كثةٌ أثناء خدمته كأمنيٍّ مع "الدولة الإسلامية"، مكلَّفٍ بالحفاظ على حكم الجماعة الوحشيّ في سوريا. من تشرين الأول 2014 وحتى أيار 2015، عمل أبو إبراهيم في المكاتب الأمنية للتنظيم في الرقة ودير الزور.

هو واحدٌ من خمسة أبناء لعائلةٍ من الطبقة الوسطى من ريف الرقة. عندما بلغ سن الرشد ذهب إلى الجامعة في مدينة دير الزور لدراسة علوم الحاسوب، وكان في نهايات سنته الأولى عندما بدأت الثورة. كان والده خائفاً عليه. يعود أبو إبراهيم بذاكرته إلى تلك الأيام: "كان ثمة الكثير من المظاهرات في الجامعة، لذا كان أبي قلقاً من أن أعتقل". عائلته –شأن كثيرٍ من العائلات في قريته– لم تساند الثورة، بسبب ذاكرة القمع الوحشيّ لنظام حافظ الأسد للانتفاضة التي حدثت في ثمانينات القرن الماضي. أما أبو إبراهيم نفسه فلم يكن لديه رأيٌ عن الثورة إلى أن بدأ النظام يعتقل زملاء الدراسة والأصدقاء، وحينها بدأت الكراهية. "ذات يوم شاهدت 3 سيارات متوقفة قرب منزل جارنا"، قال أبو إبراهيم وهو يصف أيامه في دير الزور. "فهمت أن ذلك المنزل فيه ثوريٌّ، لكن عندما شاهدتهم يعتقلون فتىً لا يتجاوز 15 عاماً بدأت الأمور تلهب حماسي". عندما أصبح من المستحيل على أبي إبراهيم متابعة دراسته في دير الزور، عاد إلى بلده متوقعاً أنه سيبقى هناك أطول قليلاً من العطلة المعتادة. لكن أثناء وجوده هناك استولت جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، ووحدات مرتبطة بالجيش السوريّ الحرّ، على مدينة الرقة، وفجأةً وجد نفسه في أرضٍ محرّرة. بعد أن شهد العنف في دير الزور، كان مسروراً لتحرّر منطقته من النظام. لم يكن لديه الكثير ليفعله في الرقة، مما دفعه إلى أن يبدأ بقضاء الوقت مع بعض الأصدقاء الذين كانوا قد التحقوا بجبهة النصرة ومناقشة تاريخ الجهاديين المجيد. كانت معظم تلك القصص عن مقاتلين مثل عبد الله عزام، لكن أكثر ما أثّرَ فيه كانت روايات عن تفجيرات جبهة النصرة لمبانٍ حكومية في دمشق في 2012. بدا له أن الجبهة كانت تشكل فارقاً. "كنت أفكر جدياً بالانضمام إليهم". لكن قبل أن يستطيع الالتحاق بهم سيطرت "الدولة الإسلامية" على مدينة الرقة سيطرةً تامة، وكان على جبهة النصرة الانسحاب. بعض أصدقائه رحلوا مع الجبهة، لكن آخرين انضموا إلى "الدولة"، فازدادت معرفة أبي إبراهيم بالتنظيم. "كان أصدقائي الداعشيون يحكون لي عن الفرق بين النصرة وداعش، لكن هذا لم يكن واضحاً"، قال، مستعملاً الأحرف الأولى من اسم التنظيم ذات الدلالة التحقيرية. "هكذا بدأت أحضر دروساً لداعش". واقعة أن أبي إبراهيم كان يشير إلى الجماعة باسم داعش عوضاً عن "الدولة" مؤشرٌ على مرارته الحالية تجاه الجماعة.

أثناء دروس العقيدة والشريعة تعلم أبو إبراهيم أن كل من لا يساند "الدولة الإسلامية" يُعدّ كافراً. حتى أعضاء جبهة النصرة لم يكونوا مسلمين كفاية لأنهم، حسب "الدولة"، لم يكونوا آبهين لقواعد الإسلام، وكانوا ذي لينٍ مع المدنيين، ولم يكونوا مقاتلين جيدين. "بدا الأمر مقنعاً بما يكفي"، قال أبو إبراهيم. وفي تشرين الأول 2014، وبعد إنهائه للدورة، بايع الجماعة رسمياً. كانت شهوره الأولى على ما يرام. وبما أنه لم يكن قد قاتل مع أي جماعةٍ أخرى، فقد اعتُبر عضواً مثالياً. كان هذا الأمر هاماً للذين يقودون الجماعة: إنهم يرتابون بالمقاتلين السابقين، لأن واقعة أنهم قاتلوا في وقتٍ ما لصالح مجموعاتٍ أخرى تشكّك في تصميمهم على بناء دولة "إسلامية" بحق. كانت له علاقات طيبة جداً مع قادة الجماعة المحليين، لذا دعوه إلى العمل في المكتب الأمنيّ في الرقة، الذي كان أهمّ جهازٍ في الجماعة المتشددة، فعلى عاتقه تقع مسؤولية ضبط الأراضي التي تحت سيطرة التنظيم وضمان أمن مؤسساته وقيادته. يقول أبو إبراهيم: "لست متأكداً من سبب اختيارهم لي، لكن هذا لم يكن مهماً؛ لقد كان مكاناً جيداً أعمل فيه". بالإضافة إلى السلطة التي تمتع بها بعمله في هذا الجهاز، كان يتلقى مرتباً شهرياً يبلغ 250 دولاراً. نجح في البداية، بفضل تدرّبه في علوم الحاسوب، في الحصول على وظيفة التدقيق في حواسيب المعتقلين والمطلوبين بحثاً عن ملفاتٍ وإيميلاتٍ محذوفة. لكن لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى نُقل للعمل في دير الزور، وهناك كانت مهمته جمع معلوماتٍ عن الناس. يقول أبو إبراهيم: "كنت أذهب إلى صالونات الحلاقة وأصغي أثناء انتظاري لدوري، وكنت أذهب إلى المساجد بعد الصلاة وأنصت إلى أحاديث الناس متظاهراً أني أقرأ القرآن".

lkj

في غضون ذلك كانت مشاركة أبو إبراهيم مع التنظيم تدمّر روابطه العائلية. والده حتى اليوم لا يناصر الثورة، ولا أحد من إخوته يقاتل في الحرب. يقول أبو إبراهيم: "قال لي أبي إنه سيفعل لي أيّ شيءٍ إن تركت التنظيم. سيساعدني على إيجاد فتاةٍ أتزوجها ويدفع تكاليف الزفاف، لكني لم أهتم. الصداقة بين المقاتلين كانت أكثر شيء استمتعت به بوجودي مع داعش. كان يوجد أميركيون وفرنسيون وعرب، لكنهم كانوا يحبون بعضهم، ولم يكن هناك تمييز". أساس هذا الرابط القوي بين أعضاء التنظيم ليس فقط الإيمان الديني. فبالرغم من وجود بعض المقاتلين الشديدي التدين، هناك أشخاصٌ انضمّوا من أجل المال، وحسب أبو إبراهيم: "كانوا سيتحوّلون إلى المسيحية لو كانت تدفع المال الوفير". كثيرٌ من الناس أيضاً، وفقاً لأبي إبراهيم، انضمّوا إلى التنظيم لا لأنهم مؤمنون حقيقيون، بل بدافع اليأس. فهناك سوريون في التنظيم كانوا قد قاتلوا مع مجموعاتٍ مرتبطةٍ بالجيش الحرّ، ليصابوا أخيراً بالخيبة بعد فشل كل تلك الجهود والتضحيات. لم يكن أبو إبراهيم مهتماً للراية التي كان المقاتلون يقاتلون تحتها طالما كانوا يقاتلون النظام –وينتصرون– ولذلك التحق بالتنظيم. لكن قلقاً عميقاً انتابه لما شاهده وهو في صفوفهم. لم يكن مسروراً من الطريقة التي كانوا يعاملون بها المدنيين. تعامل مقاتلو الجماعة مع السكان المحليين وكأنهم أدنى طبقةٍ ممكنة: "كنت أكره ذلك، وأكره أن الناس كرهوني لأني كنت مع داعش". بدأ أبو إبراهيم يدرك أنه، حتى ولو كان النظام عدوّاً مشتركا له وللتنظيم، إلا أنه لا يتفق مع فلسفتهم الأساسية. وهو يرى أن كثيراً من المقاتلين السوريين مع التنظيم يشاطرونه الرأي، لكنهم لا يستطيعون فعل شيء لإيقاف انتهاكات التنظيم.

فيما بعد، ألقى التنظيم القبض على أعضاء في جبهة النصرة وسجنوهم في الرقة، ثم أعدموهم في ساحة الساعة. كان أولئك أصدقاء لأبي إبراهيم، وكان يعرف بعضهم حتى قبل أن تغيّر الحرب حياتهم. "لم أستطع تحمّل ذلك. في إحدى المرّات شاهدت صديقي من جبهة النصرة ورأسه يُقطع، فعرفت أنه عليّ ترك التنظيم. لكن قرار ترك التنظيم وتركه فعلياً أمران شديدا الاختلاف. فمقاتلو التنظيم الذين يُضبطون وهم يحاولون الهرب يُقتلون فوراً". أدرك أبو إبراهيم أن الانشقاق يتطلب خطّةً مفصّلة. أمَّن لنفسه أخيراً هويةً مدنيةً مزوّرةً واستطاع القيام بالرحلة الخطرة بنجاح، فَعَبَر الحدود إلى تركيا. هو يعيش حالياً في مدينة أورفة التركية، ويفكر في متابعة دراسته. لم يعد على اتصالٍ مع أيّ شخصٍ ينتمي إلى التنظيم، لكنه أيضاً لم يُكًون صداقاتٍ جديدة. عندما سُئل عن احتمال عودته إلى القتال أجاب: "أنا سَئمٌ من القتال". إنه يحاول العودة إلى الحياة العادية، لكن الأمر ليس سهلاً. يقول أبو إبراهيم: "مع الدولة الإسلامية، يصبح القتال عقيدتك". الآن عليه أن يجد شيئاً ما آخر يعيش من أجله.