الجرّاح البريطانيّ ديفيد نوت: خداعُ الموت يمنحني النشوة

إليزابيث غريس/ دايلي تلغراف
ترجمة مأمون حلبي

الهياج هو آخر عاطفةٍ يمكن لها أن تقترن بالجرّاح البريطانيّ صاحب الأعصاب الفولاذية. فأثناء الفترات التي أمضاها في مناطق الحروب شاهد كلّ شيء. يقوم نوت بإجراء عملياته بسرعةٍ وسط ظروفٍ بدائيةٍ ونقصٍ دائمٍ في التجهيزات. في بعض المشافي الميدانية يشكّل صوت ارتطام القنابل خلفيةً بعيدةً عن انتباهه. إنه غائصٌ في الدم. أثناء الفترة الأخيرة التي قضاها في مدينة حلب، حملوا إليه فتىً قُطعت ساقاه وسُلخ عجزاه، وكانت على وجهه لطخٌ بيضاء غير مفهومة. بعد ذلك تم إدخال أخته ورأسها مهشّم. اللطخ البيضاء على وجه الفتى كانت من دماغ أخته. هذه الصورة، كما يقول نوت، تجسّد هول الأمر برمته.
أصعب ما في الأمر هو العودة إلى الحياة العادية. يقول نوت: "ثمة نوعٌ من الهياج لا يمكنك السيطرة عليه. لديك تلك الجمرة التي تبدأ بالاشتعال وتنمو متحوّلةً إلى مرجلٍ يهدر في الرأس. التوتر الذي يلي التجربة القاسية يجعل المرء يعاني أحياناً من اضطرابٍ عصبيّ. وذك هو أحد الأسباب التي تفسّر دخول جنودٍ قاتلوا في العراق وأفغانستان إلى السجن؛ إنهم لا يستطيعون ضبط هياجهم. أعاني من ذات المشكلة لكنني أفهمها وأعرف أنني لست على ما يرام". حتى مع وجود مساندةٍ نفسيةٍ، يستغرق الأمر منه شهوراً ليتكيّف مع الحياة العادية. لقد كانت العودة من حلب أسوأ تجربةٍ عاناها، لا فقط بالنسبة إليه، ولكن أيضاً لكلّ من كان حوله.
"لديّ خطيبة، ولقد عانت فترةً قاسية". خلال عشرين عاماً من العمل الإنسانيّ، وفي مناطق النزاعات، كان نوت يدّعي دائماً أنها مزيةٌ إيجابيةٌ، لا بل ضرورةٌ، أن لا تكون لدى المرء مسؤولياتٌ عائلية. "كان من الممكن أن أختار الزواج"، قال ذلك العام الماضي، "لكني لم أكن أريد ذلك. ليست لي زوجةٌ ولا أطفال، ولا أمٌّ أو أبٌ يقلقان بشأني". في حزيران تغيّر الأمر، عندما قابل جراحُ الأوعية الشهير إيلي جوب، وهي محللةٌ لشؤون الشرق الأوسط، في مناسبةٍ خيرية. لقد حصل انجذابٌ فوريّ. "أبداً لم أكن أظن أن هذا قد يحصل، ولا في مليون سنة. كان يبدو أمر مستحيلاً". نوت في السادسة والخمسين من العمر، لكن وجود امرأةٍ في حياته يبدو رائعاً، وهما سيتزوّجان هذا السبت. إنهما يريدان أن يسافرا معاً، وينجبا أطفالاً ويبنيا مؤسسةً لتدريب الأطباء وتبادل خبرات أولئك الذين خدموا في مناطق النزاعات في شتى أنحاء العالم. نوت، في الوقت الحاضر، على مفترق طرقٍ شخصيّ: "ربما الآن هو الوقت المناسب لأركّز على التعليم. لقائي إيلي ورغبتي أن أكون معها ربما جعلاني أفكر أن أسلك طريقاً مختلفاً. من الواضح أنها تظنّ أنه قد حان الوقت لأتوقف الآن. قلت لها إن في داخلي بذرة رعاية الآخرين قبل نفسي، هذه البذرة التي انفتحت وترفض الانغلاق. أظن أنها تتفهمني. وقد قالت إنها لا تريدني أن أذهب، لكن إن كان عليّ الذهاب فإنها لا تستطيع إيقافي".
عام 1993 ذهب نوت إلى البوسنة مع منظمة (أطباء بلا حدود)، وعمل في المشفى الحكوميّ. "استمتعتُ بكلّ دقيقةٍ من وقتي. كوني قادراً على مساعدة الناس الذين كانوا يحتاجون إلى مساعدتي، والذين لولا وجودي لما حصلوا على هذه المساعدة، كان أمراً رائعاً". منذ ذلك الوقت قام نوت بعملٍ إنسانيٍّ تطوعيٍّ في أفغانستان والعراق وسيراليون والبوسنة وليبيا وغزّة وسوريا. لما يقوم بذلك؟ ليس بوسع كلّ شخصٍ أن يجيب عن هذا السؤال بنفس الصدق الذي يجيب به نوت. "بغضّ النظر عن الجانب الإيثاريّ، والرغبة في مساعدة اليائسين، هناك نشوةٌ محدّدةٌ أحصل عليها من القيام بهذا الأمر. عندما تذهب بعيداً وتقترب من الموت وتخدعه فإنك تحصل على نشوةٍ مذهلة. الصحافيون في مناطق الحروب يشعرون بهذا أيضاً. إنها حالةٌ من الوجد تشبه عقاراً مخدراً".
هذه المرّة، في ســــوريا، 70% من الإصابـــات كانوا أطفالاً. قُصـــفت حلب بالبراميل المتفجرة، تقريباً مثل ستالينغراد. حوّاماتٌ تطير على ارتفاع 6 كم تلقي حاوياتٍ بزنة 500 كغ من مادة ت. ن. ت على أحياء المدينة. وعندما غادر نوت سوريا، عام 2013، طرق أبواب الوزراء ليناقش قضية الممرّات الإنسانية، وليقدّم الدليل على فظاعات نظام الأسد. في إحدى حفلات الاستقبال غيّر أحد الوزراء الموضوع إلى مرض إيبولا، وخرج بعد وقتٍ قصير. "لا أحد استمع إليّ. لقد شجّعوني فقط".