أمام سجن داعش في مدينة الباب آباءٌ وأمهاتٌ يسألون عن مصير أبنائهم

من إصدارات التنظيم

صدفةً يلتقي أشخاصٌ من مدنٍ وبلداتٍ مختلفةٍ على باب المحكمة، ليبوح كلٌّ منهم للآخر بآلامه ومخاوفه على ابنٍ أو أخٍ أو قريبٍ ألقي به في سجنٍ من سجون تنظيم الدولة.

يقول كهلٌ أبيض الشعر إنه لا يعرف سبباً لاعتقال ابنه، مع ثلاثين آخرين من بلدة تادف. فهم مجرّد أشخاصٍ عاديين ليست لهم علاقةٌ بأيّ شيء: "قال موظفين عند بشار قال.. ابني عامل فرن مسكين عم يخدم الناس ما عم يخدم بشار بهالفرن.. وكل راتبه 15 ألف. وإذا ما بدهن ياه يشتغل لبشار يعطوه عالأقل 10 آلاف وأنا ما بخليه يروح لو تخرب الدنيا". يعلق شابٌّ من مدينة الباب أن والده مسجونٌ بالتهمة نفسها، وأنه قد اعتقل مع مئةٍ شخصٍ آخر لأنهم موظفون: "أبوي مريض قلب. ولو ما هالراتب ما كان سافر لحلب أول كل شهر وتحمل كل هالعذاب. ولو يعطوه بدل هالراتب أنا بضمنه ما يتحرّك خطوة لهنيك".
بالتنقل بين أجزاء حلب الخاضعة لسيطرة قوىً مختلفةٍ يصبح الموظفون الحكوميون موضع اشتباهٍ من الجميع؛ فلا توفر مخابرات الأسد وشبيحته أحداً من هؤلاء الموظفين من تهمة العمالة ومساعدة "الإرهاب"، وكذلك يفعل عناصر التنظيم معهم حين ذهابهم وعودتهم لاستلام الراتب أوّل كل شهر. إلا أن قضايا الموظفين المسجونين لدى التنظيم تعدّ من أهون القضايا، إذ لا يتأخر إطلاق سراحهم عادةً. كما ينصح رجلٌ سمع الحديث السابق: "احمدوا ربكم شغلتكن سهلة". ثم يهمس بصوتٍ أخفض أن تهمة ابنه، المعتقل منذ خمسة شهور، خطرة، فهو "إعلامي". لكنه، كما يقول الرجل: "كان إعلامي. بس والله اعتزل كلشي لما بلشت المشاكل بينهن وبين الجيش الحرّ.. من خمس شهور مسجون ولسا ما تحاكم وما خلوني أشوفه.. عشرين مرة رحت وجيت وما شفته". ويضيف الرجل بنبرةٍ يائسةٍ أنه بدأ يفقد الأمل، وليس له إلا الله ليأخذ حقه: "محكمة المظالم قالوا لما يطلع ابنك من السجن خليه يجي هو يشتكي.. ليش أنا أعرف ابني عايش وإلا ميت.. حسبي الله عليهم".
كما في محاكم النظام، ليس للوقت أو لكرامة الناس أية قيمةٍ لدى عناصر التنظيم وقادته، فقد يُلقى بأيّ شخصٍ لأشهرٍ في السجن، وبتهمةٍ تافهةٍ، بانتظار أن ينظر القاضي فيها. ولا يكفي ثلاثة قضاةٍ فقط، هنا في الباب، للنظر في العدد الهائل من القضايا وحالات الاعتقال. وبحسب رواياتٍ كثيرةٍ يتناقلها السكان، لا يحترم هؤلاء القضاة وعودهم الشفهية للمراجعين بتسريع النظر في القضايا. وكثيراً ما سمع المراجعون منهم جملة: "روح وتعال بعد 15 يوم"، ثم يتكرر الطلب ذاته عدّة مرات. وتضاعف المعاناةَ حالاتُ غياب القاضي أو تأخره.
قريباً من شباك الاستعلامات تتوسّل عجوزٌ بصوتٍ عالٍ: "الله يوفقك.. والله أنا جاية من دير الزور.. خليني أشوفه.. والله ما أقدر أمشي فشلون أروح وأرجع بعدين". يجيبها عنصر الاستعلامات بأنه لا يستطيع مساعدتها في وقت التحقيق فتصرخ العجوز: "والله خايفة أموت وما أشوفه.. كان رايح يشتغل بتركيا وسجنتوه... ليش ساجنينه؟". يزجرها العنصر: "ابنك جيش حرّ، ولقينا بجوّاله صور جيش حرّ. وما راح تشوفيه إلا يخلص التحقيق". تشهق العجوز "جيش حرّ؟ ابني والله مو جيش حرّ. كان يشتغل بالمازوت. والصور مو إله، هاي لقرايبه وربعه.. خليني أشوفه والله ما لي غيره".
يخضع الشبان المارّون عبر حواجز التنظيم لتفتيشٍ جسديٍّ دقيق. ويعتبر العثور في جوّالاتهم على صورٍ لمقاتلي الجيش الحرّ، أو لشعارات الثورة أو لعلمها، تهمةً كبيرة. ولا تفلح في بعض الحالات عمليات حذف الصور، فقد يستعيد عناصر التنظيم العناصر المحذوفة من الهاتف. إضافةً إلى استعراض المحادثات للبحث عن جملةٍ تنتقد التنظيم أو تشير إلى موقفٍ ما ضدّه.
على أبواب سجون التنظيم يقف كل يوم عشرات الآباء والأمهات والأخوة سـاعاتٍ طويـلة، على أمل أن يحــــظوا بوعدٍ بالإفراج أو فرصة زيارةٍ أو عبارةٍ تطمئنهم إلى أن من يسألون عنه ما زال على قيد الحياة.