- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
على من تعود واو الجماعة؟!
«لا تطلعوا من بلدكم حتى لو يهرسوكم زي البطاطا»، جملة السائق التحذيرية تلك أعادت لي صحوي. عقارب الساعة كانت تشير إلى الثانية والنصف فجراً. تذكرت حينها _بعد أن أرغمني تعب السفر على الرّكوع لغفوة_ أنّي في سيارة تُقلني وزملائي إلى أحد فنادق عمان للإقامة مدة أسبوع. كنا قد تجاذبنا حديثاً سورياً بدا هارباً من أسئلة السائق عما يجري، فالغوطة والأحداث الأخيرة كانت نقطة انطلاق الحديث ومنتهاه، والإجابات السورية مقتضبة تحسباً، أو ربما «القلب من الحامض لاوي».
استسلم السائق أخيراً لـ صمتٍ شبه جماعي، تماماً كاستسلامي لتساؤل لغوي عن واو الجماعة في كلمته «يهرسوكم». ترى على من تعود؟ فالبعض منا أتقن فن التأويل في الكلام، وآخرون اختصروا قصتهم مع الحرب في جملة «الله يشنطط يلي شنططنا»، والأغلبية ركنت إلى جملة «الله يطفيها بنورو».
أسرع السائق نحو العاصمة، تماماً كسرعة طرحه للأسئلة. علمت لاحقاً أن لعائلته باعٌ في الهجرة واللجوء (عمره 70 عاما... فلسطيني).
لجوء
باب اللام، ترتيب الجيم فالهمزة، الصفحة (574) من قاموس تاج العروس، وتعني كلمة «اللاجئ» بمرادفها الوحيد: من لاذ بغير وطنه فراراً من اضطهاد أو حرب أو مجاعة. مصطلح بات يُستخدم اليوم كمتلازمة مرضية، أو لعنة تلحق صاحبها في التعليم والعمل والسكن، والارتباط المحكوم هو الآخر بـ«لم شمل» عمره عامان، يكاد يضيق نطاقه حد استحالة حصوله.
بعض المقيمين من السوريين أوصدوا أبوابهم في وجه خاطبين «لاجئين»، بذريعة «يلي متلنا تعوا لعنا»، فـ«المقيمات للمقيمين» و«اللاجئون للاجئات». فرز اجتماعي جغرافي آخر مباغت، فعلى من تعود واو الجماعة؟
لفتة وصفعة
صوت أنثوي يصدح عبر مكبرات الصوت. أسكتَ أخيراً ضجيج مطار بيروت مساء، هناك.. حيث صالة الانتظار، توسّطت شجرة ميلاد بهية، تسلّقتها بفوضوية حبال الإضاءة، ونجوم وأجراس مطليّة، فوجدتُني أحدّق في إحداها لأرى انعكاس وجهي بوضوح، وبـ هالات سوداء تنضح تعباً.
صوت رجولي اصطنع سعالاً كتنبيه مؤدب، كان لرب أسرة لبنانية في صف المغادرين، تقف خلفي، أب وأم وطفلان تتقدمهم عربة تعلوها حقائب سفر، أومأت برأسي معتذرة وآثرتهم بدوري، ابتسامة علتْ وجه الرجل ليعينني على حمل حقيبتي حيث الجهاز الفاحص، فأعادها سيرتها الأولى حيث العربة.
اطمأنت نفسي للحدث الذي جاء على خلاف ما خبرته سمعاً، إلّا أن موظف أمن المطار أعاد لنفسي قلقها، التقط أوراقي مقطب الجبين، ماطل في الختم، سألني بلغة العارف، «أين الموافقة؟!» كانت موافقة سفري من جملة الأوراق في يده. «سبب سفرك؟» بادرته بكلمة «ترانزيت» قبل توضيح السبب، لتكون بمثابة ضربة استباقية أدفع بها عن نفسي تهمة غير معلنة عن سبب مجيئي إلى لبنان، كانت كفيلة باختفاء تقطيب جبينه، حتى أنهيت الإجراءات سريعاً، ترى هل تشمله واو الجماعة تلك؟
خلل وظيفي
تحدّث الباحث الكندي تشارلز رايت عن مفهوم الخلل الوظيفي في بحوث الاتصال، يحدث الخلل أثناء تأدية الوسيلة الإعلامية لإحدى وظائفها «الإخبار، التوجيه، الترفيه.. إلخ». كان أن حصل ذلك في إحدى الدول العربية التي باتت تتصدر اليوم قائمة أكثر الدول في تعاطي مواطنيها للمخدرات، كانت من قبل تحاربه عبر حملات لتوعية مواطنيها الذين لم يكونوا يعلمون بوجوده، إلى أن جاءت الحملة الإعلامية مطبوعة بكلمتي «لا للمخدرات» على قمصان لاعبي منتخبات بلادهم، فتفشى تعاطيها بدل أن تُحدث العكس.
اليوم، عدسات الكاميرا تلاحق بفضول مقيت أحياناً حياة السوريين في مجتمعات «لجؤوا» إليها، وأخرى تختلق «صدمة» متلفزة لرصد تعامل مجتمعات أجنبية وعربية مع الوجود السوري في بلدانهم. شعور يطفو تزامناً مع إلحاق كلمة «لاجئ» قبل «السوري» لتصبح شبه ملازمة له، ويتوجب على من وقع في دائرة «اللجوء»، التعايش مع حقوقه الموضوعة منذ 1951، والاحتفاء بيوم 22 يونيو، يقاسمه فيه 65 مليون لاجئ، حسب إحصائية حديثة لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين.
استخدام لغوي حريص في إلحاق مصطلح اللجوء بالسوريّ، حتى بات تواتر استخدامها بمثابة تمهيد نفسي لقبول السوري _كأسلافه_ بأزمة مستدامة، قلّصت له إطار الممكن من العيش، وقزّمت في ناظره أفق الحياة بكلمة. تماماً كإحياء دول أمعنت_ فيما مضى _ في الحروب لذكرى شهداء، واختلاق دقيقة صمت حداداً على أرواح ضحايا، بمثابة تبرئة غير مباشرة، وتفلّتٍ من مسؤولية، واعتذار مختصر بكلمة Sorry، تماماً كما فعلت واشنطن في اعتذارها عن ما خلفته من قوافل للشهداء في العراق.
إجابة!
مفارقة لغوية أخرى،«وافد» وتعني: «المقيم في غير موطنه، ووفد إليه: أكرم وصوله وعامله بالحسنى، أو: قابله مُرحباً وأكرمه. تبدو المفارقة ساخرة رغم سذاجتها، لكن الفرز اللغوي الفج جعل من وتيرة الشكوى السورية ثنائية، تتناوب بين العائلة والموطن، تسرع حيث (الصفر)، عند أول مقارنة في تفصيل حياتي ومعيشي، بين ما كانوا عليه وماهم فيه اليوم.
صباح سادس في عمان، والغوطة ما زالت محاصرة مقطوعة السبل، وأخبار سوريا المتلفزة يعلوها لون رمادي عطش. قضيت يومي راجلة أتنقل، أجد سيارات خاصة توشحت بالعلم الهاشمي، أتساءل: «هل انتهت للتو مباراة بين منتخبات وطنية؟»، لكن ملاعب العاصمة تكاد تخلو من مباراة، المشهد تكرر على مدى أسبوع، وعند السؤال، كانت الإجابة في كلام السائق إسقاطاً غير مباشر، اختصر فيها قصته في مبرر جغرافي تاريخي خلاصته «أردني أصيل» لا أردني فلسطيني!