حلب المدينة السورية الثانية، والمعروفة بالعاصمة الاقتصادية، ففيها حوالي 8500 منشأةٍ صناعيةٍ بين صغيرةٍ ومتوسطةٍ وكبيرة. فاق عدد سكانها قبل الثورة الأربعة ملايين نسمة، ونقص إلى النصف تقريباً نتيجة القصف المدمّر والمنهجيّ لأحيائها المحرّرة.
منذ صيف العام 2014 انقسمت المدينة بخطٍّ ناريٍّ حقيقيٍّ إلى جزئين؛ محرّرٍ ومحتلٍّ أو غربيٍّ وشرقيّ. رسمت قوّات الأسد هذا الخطّ برصاص القنّاصين، وصار التنقل بين الجزئين مغامرةً قد تودي بالحياة، وأقلها قد تكلف مبالغ كبيرة، عبر طريق خناصر–السلمية نحو ريف إدلب، إلى ريف حلب الغربيّ وبالعكس، في ما لا يقلّ عن ثماني ساعاتٍ وبتكلفة حوالي 2500 ليرة، تصل أحياناً إلى ضعف هذا المبلغ. ويبلغ عدد حواجز جيش النظام والمخابرات والشبيحة على الطريق 34، وحواجز الجيش الحرّ والفصائل الإسلامية حوالي 8 حواجز.
في شوارع حلب الغربية لا يمكن تجاهل مظاهر الغزو الطائفيّ في الأعلام والشعارات والصور، فضلاً عن الأغاني التي تطلقها مكبّرات صوت السيارات المرتبطة بالنظام، لعلّ أوقحها في ضمير مجتمعٍ سنّيٍّ مثل مجتمع حلب: "كيفك فيّا كيفك فيّا، خبر سيدك عمر بدنا نقصف داريا". وتحوّلت الحدائق والساحات، التي شكلت أحد عناصر العمارة المميزة لمدينة حلب، إلى نوادي فجورٍ أمنيٍّ وسلوكيٍّ لعناصر مخابرات الأسد وشبّيحته، حيث تباع المشروبات الكحولية دون ضابطٍ أو قيد، إلى جانب مشاهد تخدش الحياء العام تصدر من هؤلاء برفقة مراهقاتٍ وقعن ضحية هذا الانفلات.
حيّ الفرقان، ذاك الحيّ الراقي البرجوازيّ، انتشرت المحلات التجارية على جانبي شوارعه العريضة بينما انزرعت البرّاكات على أرصفته، لكن ليس كما هو حال حيّ الحمدانية الحديث الذي بني أواخر السبعينات، الواقع في الجنوب الغربيّ من المدينة، ويقطنه الكثير من الموظفين وأصحاب المهن الحرّة والضباط. وهو حيٌّ له أهميته القصوى لدى النظام، إذ تحيط به أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية من جهةٍ ومدرسة المدفعية وكلية التسليح من جهةٍ أخرى. وبالطبع تمّ نقل جميع الضباط العلويين مع أسرَهم من الحيّ، بواسطة طائرة هليكوبتر كانت تقلّ الأسر من الأكاديمية إلى قراهم ومناطقهم، والضباط إلى مواقع أخرى أو للسكن في أماكن خدمتهم، بينما بقيت قلةٌ من الضباط السنّة، أحدهم ( ك. ش) من منطقة الأتارب برتبة عقيد، وهو آمر سرية مدفعية، لم يكن يتوانى عن قصف بلدته رغم مناشدة أبيه وذويه.
الشغل الشاغل لمعظم السكّان هو أن يمرّ يومهم بسلامٍ وبما يقدرون على تأمينه من مقوّمات العيش. فالأفران مهمتها تأمين الخبز لعناصر الجيش والأمن أولاً وللشبيحة ثانياً ولكبار الموظفين ثالثاً، والبقية للطوابير التي يتجاوز عدد الواقفين عليها المئات. أما الكهرباء فقد نسيها السكان وصاروا يتندّرون بكلماتٍ ساخرةٍ عند مجيئها، فأغلب -إن لم نقل كلّ- البيوت تعتمد على شراء التيار (الأمبير) من أصحاب المولدات، كلٌّ حسب استطاعته، لكنك لا تجد من يشتري أكثر من 4 أمبير، بينما تشترك الغالبية بأمبيرٍ واحدٍ أو اثنين (يصل سعر الأمبير، لمدة تشغيل 8 ساعات يومياً، إلى حوالي 1000 ل.س في الأسبوع).
والمشكلة الكبرى التي تتجاوز الخبز والكهرباء هي تأمين المياه. فمحطة الضخّ الرئيسية في الخفسة تحت سيطرة تنظيم الدولة (داعش)، ومحطة التلقي الرئيسية في حيّ سليمان الحلبي تحت سيطرة جبهة النصرة، وتقع على الخطّ الفاصل بين قوّات النظام وفصائل الجيش الحرّ. وعند انقطاع التيار الكهربائيّ، وهو ما يحدث كثيراً ولمددٍ طويلة، لا بدّ من تشغيل مجموعة التوليد الوحيدة. وتحتاج عملية تأمين الوقود لها إلى تنسيقٍ ليس بسيطاً بين قوّات النظام وفصائل الجيش الحرّ عبر مبادرة أهالي والهلال الأحمر، ولا يمكن لهذه الآلية تأمين الضخّ لجميع الأحياء، فيتمّ توزيع المياه بحيث تصل إلى كلّ حيٍّ يوماً في الأسبوع في أفضل الأحوال، أما الوضع "الطبيعيّ" فكل 15-20 يوماً، إن استمرّ التزويد بالوقود. الأمر الذي يدفع الناس إلى شراء المياه عبر الصهاريج دون إمكانية التأكد من صلاحيتها، وبأسعارٍ خيالية، إذ يتراوح السعر بين (5،1 إلى 3) ل.س/ليتر، فيضطرّون إلى نقل المياه من الآبار الأهلية والعامة في الجوامع والحدائق. ولا يختلف الطابور هنا عن نظيره على الأفران، حيث تدخلات الشبيحة والزعران، إلى درجة أنك قد تقف لساعاتٍ للحصول على "بيدونة" ماء (ما يعادل 20 ليتراً).