- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
يوماً ما في داريا .. حكاية مكتبة داريا التي خبأت خلفها حركة سياسية لم ينتبه لها العالم
قال لي "همام أبو مجاهد"، المقاتل الذي كان يجلس إلى جانبي أمام إحدى الطلاقيات الدفاعية: "أريدك في أمر هام"، وعلى الفور بدأ بعرض الفكرة: "نريد إحياء (مشروع التغيير) وأحب أن تكون معنا".
وبعد عدة جلسات نقاش وأخذ ورد، وافقت على الدخول ضمن أول تجمع سياسي ثقافي في داريا عقب الثورة، عملت فيه لعدة أشهر، وكنت أحد المشاركين في التأسيس الجديد الذي أتحدث عنه اليوم؛ دار الحديث منتصف الشتاء، حينها كانت تسود حالة من الاستقرار في داريا، بعد معارك حامية بدأت منذ تشرين الثاني 2012. أتذكر لحظات استماعي لحديث همام معانقاً بندقيتي في مواجهة الخطوط العسكرية للنظام، بينما تلتهب مدفأة المازوت مضيفة جواً من الدفء على برد كانون الثاني.
تأتي الحركات والتجمعات السياسية في داريا، سواء تلك التي تأسست قبل الثورة "جماعة عبد الأكرم السقا"، أو التي انبثقت مع اندلاع الثورة "مشروع التغيير، تجمع سنحيا كراما"؛ تأتي جميعها ضمن الإطار المحافظ الذي تتسم به المدينة، فقد انطلقت معظم الأعمال الثورية -ومنها هذه التجمعات- من حلقات المساجد التي كان الطلاب يدرسون فيها -إضافة للقرآن- شيئاً من العلوم الشرعية واللغة العربية، وانعكست الألفة التي انعقدت بين طلاب كل مسجد على تجمعات الثورة التي أتت فيما بعد.. لذلك كان أول ما سعى "مشروع التغيير" لنشره عندما انطلق في السنة الأولى للثورة، هو ضم هؤلاء الطلاب لصفوفه سعياً لإحداث تغييرات فردية وجماعية سياسياً وثقافياً بين مجموعاتهم.
تمكن مشروع التغيير من النجاح في هذه الخطوة، كما استطاع خلال العام الثاني للثورة، عقب تحرير داريا على يد الجيش الحر، عقد ملتقيات (جماهيرية) في عدد من مساجد المدينة، مثل جامع المنبر والمصطفى وأنس بن مالك، شارك فيها بعض المشايخ والمثقفين. أوقفت حملة داريا نهاية العام الثاني جميع هذه النشاطات، وأدت لوأد هذا التجمع تماماً.
خلال التأسيس الثاني الذي كنت مشاركاً فيه، اختار همام عدداً من الأشخاص بينهم قياديون في الجيش الحر لتشكيل الإدارة، التي تألفت من سبعة أعضاء؛ شاركتُ في هذا الاختيار، بل كنت وهمام نجلس مطولاً للحديث حول ما ينبغي فعله لتوسيع التجمع إدارة وأفراداً: "علينا إدخال قياديين محبوبين في داريا لرفد الجانب التعبوي في التجمع"، لا أدري من اقترح هذه الفكرة أولاً، لكن كنا متفقين عليها. كان من بين من انضموا إلينا "أبو وائل حبيب" الذي يقود أهم كتيبة في داريا "شهداء داريا"، إضافة إلى "أبو الفدا مدور" الذراع اليمنى لأبو وائل في الكتيبة.
الاجتماعات الأولى كانت مليئة بالنقاشات حول التجمع، وكيف سيتم تطويره، وما المراد منه؛ البعض كان يتحدث عن "تطوير ذواتنا إيمانياً وعلمياً"، بينما يطرح آخرون أسماء شبابية لتنسيبها إلى المشروع، لكن الموضوع المحبب للجميع كان هو التحدث عن المشروع المناهض، أقصد تجمع "سنحيا كراما" الذي أسسه بشار الفرخ مع عبد المجيد أبو أحمد ومجموعة من طلاب جامع المصطفى الموالين للأول. ما هي خططنا لمواجهة مشروع سنحيا كراما؟ كنا نفتتح الاجتماعات بهذا السؤال، وربما نختمها أيضاً بأسلوب طفولي ينم عن غياب الحنكة والبراعة في تأسيس التجمعات السياسية، فقد كنا نواجه المشروع المضاد ونحن لانزال سبعة أفراد -(القيادة) فقط-، إذ لم نشرع بعد في إجراءات التنسيب وهيكلة جسم التجمع.
كان الفرخ يوغر ضدنا الطلاب لضمهم لتجمعه الجديد، وعبارته المفضلة دائماً "تمكنت من عرض المشروع على الداعمين، واستلمت مليون ليرة كدفعة أولى"، أما نحن فلم نكن ميالين لجلب الدعم، وبقي المشروع هكذا حتى العام الرابع للثورة.
المرحلة التالية كانت مرحلة التنسيب. كنتُ أدور وهمام على الطلاب لإقناعهم، كان أغلبهم قد انضموا للمشروع قبل المعركة، لكنهم تفرقوا مع توقف المشروع في ظلها. أكبر عائق اصطدمنا به هوطلب الإدارة إجراء الموافقة أو الرفض لكل من نرغب بضمه للمشروع، أصر أبو وائل وأبو الفداء على هذه النقطة، وكان علينا أن ندفع ثمن طمعنا في كسب الشعبية -وربما القوة- من ضمّنا لهما.
في إحدى التجمعات أمسك همام بورقة كبيرة وشرع بقراءة الأسماء الجديدة، وعندما وصل إلى أحد الأسماء تكهرب الجو بشكل مفاجئ، كان الاسم الجديد لقائد إحدى الكتائب التي توقفت عن العمل وجرت بينه وبين البعض مشاحنات وصلت إلى حد الاعتقال؛ "فلان لا" قال أبو وائل بغضب واضح، فقد علت وجنتيه الحمرة بسبب محاولتنا تنسيب الشاب، الذي تأخّر ضمه للمشروع سنة أو سنتين.
قمنا بوضع الطلاب داخل أُسَر، وكانت كل أسرة مؤلفة من خمسة أفراد أحدهم "النقيب" أو المسؤول عن الأسرة؛ في الحقيقة اقترحتُ هذه الطريقة في بناء الهيكلية العامة اقتباساً من البنية التنظيمية للإخوان المسلمين، وكنتُ متأثراً بتجربتهم. اختيار نقيب كل أسرة كان يتم من قبلنا. كان همام يشكو دائماً من توجيه اتهامات تتعلق بالاستبداد والتفرد بالرأي من قبل زملائه، وربما شكلتْ مثل هذه الإجراءات أحد أسباب نعته بمثل هذه الصفات.
خلال أحد اجتماعاتنا الدورية التي كانت تعقد أسبوعياً في المكان الذي كنت مسؤولاً عنه على الجبهة، أو في منزل ماهر خولاني الذي كان عضواً في الإدارة، قررنا أنه قد حان الأوان لعقد "الملتقى الأول" لأعضاء المشروع؛ كُلفتُ بالتجهيز لهذا الملتقى الذي سيقام في جامع المصطفى؛ كان أول وآخر عمل علني في "مشروع التغيير" أقوم به. ذهبت قبل أيام لتفقد المكان، وضعت منبر المسجد في الأمام مع التجهيزات الكاملة للإذاعة، كما قمت مع مجموعة من الشبان بصف المقاعد، واتفقنا على الضيافة من القهوة المرة والمشمش، وشرعتُ في كتابة الكلمة الافتتاحية للملتقى، فقد كنتُ عريف الحفل.
في الوقت المحدد لانعقاد الملتقى توافد الحضور.. ينتابني الضحك على سذاجتنا حين أتذكر أول خطوة قمت بها؛ فقد اتفقت مع شخصين أو ثلاثة
على مجموعة من الأسئلة ليطرحوها على المحاضرين بغية "تحريك الجو". بدأت الملتقى بمطلع القصيدة الشهيرة للشاعر القروي "خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى السلام على أرواحهم أبدا" كنت متأثراً جداً خلال الإلقاء، فقد التقطت الكاميرا عبوسي الواضح في تلك اللحظات.
كنا مقتنعين جداً بما نفعل. أثناء التجهيز للملتقى، وأمام البوابة الكبيرة لمسجد المصطفى، قلت لأخي التوأم الذي التقيت به مصادفة في المكان "نحن نصنع حركة إسلامية"، كانت علامات الدهشة واضحة على معالمه وهو يستمع إلى أخيه الشاب، الذي يتحدث عن نهضة ومشروع لتغيير المجتمع السوري انطلاقاً من داريا؛ بل ربما كبرت طموحاتنا أكثر... في إحدى جلسات المناقشة أخذنا الحماس لنعلن -أنا وهمام- أن علينا أن نناضل في مواجهة العالم الذي تسيطر عليه أمريكا!. نجح الملتقى نجاحاً كبيراً، ونجحت خطتي في "تحريك الجو"، بعد أن ألقى همام "رئيس الحركة" كلمة حماسية تلتها محاضرة لماهر خولاني.
بعد الملتقى بأسابيع قررت التوقف عن المشاركة في "مشروع التغيير". اجتمعت بهمام وطرحت عليه التساؤل الملح الذي كان ينتابني دائماً "ها قد أسسنا تجمعاً بقيادة وهيكلية واضحة وملتقيات.. والآن ما هي الفكرة التي يجب العمل لنشرها وتطبيقها؟ ما هي القضية التي علينا الكفاح من أجلها؟" لم أحصل على أجوبة شافية فأعلنت تركي المشروع. لا أنسى وجه همام وهو يصغي إلى قراري المفاجئ هذا، ربما كان يعدّني بمثابة رفيق نضاله، ولكني خيبت آماله، ولا أزال حتى اللحظة أشعر بالندم على تلك الطريقة التي فاجأته بها.. كان علي ترك المشروع بلبقاقة أكبر.
تطوّرَ مشروع التغيير مع قدوم العام الرابع للثورة وحتى اليوم. أُنشأتْ حركة "فجر الإسلامية" التي تعتبر الجسم الجديد لمشروع التغيير، مدرسة فجر التي تحولت بعد إخلاء داريا نحو الشمال السوري إلى أكاديمية، يشارك في محاضراتها السياسية والثقافية والاجتماعية العديد من الأكاديميين والنخب، وتأسس لها فرع آخر في إسطنبول عقب نجاح الفرع الأول في إدلب.
لعل أهم ما قام به الطلاب المنضمون لحركة "فجر الإسلامية" هو تلك المكتبة الواسعة المليئة بمئات المجلدات، والتي أخذت حيزاً كبيراً في الإعلام. قام الطلاب بجمع المكتبات الشخصية التي عثروا عليها في المنازل المهجورة، ونظفوا قبواً كبيراً آمناً نوعاً ما وملؤوه بالرفوف، نظفوا الكتب التي علاها الغبار والهباب ورتبوها بشكل جميل وجذاب، وفي وسط المكان الطاولات الكبيرة والمقاعد الوثيرة، فكانت بمثابة قاعة للمطالعة والاجتماعات الدورية لحلقات الحركة.
في تلك القاعة التقيت همام خلال العام الرابع للثورة، وكان الملازم "أبو شاهين" قد أسس "لواء الأحرار" الذي قمت بدعمه إعلامياً بنشر لقاء مطول معه يدافع فيه عن نفسه، عاتبني همام على موقفي فأجبت بأن الرجل رحب بإجراء اللقاء الذي كان أساساً لتقرير موسع تنشره جريدتنا (البلد) حول هذه القضية، لكن جميع القادة في الطرف الآخر رفضوا إجراء الحوار؛ لا أعتقد أنني نجحت في تبرير موقفي أمامه، فحركة "فجر" وقفت فقط إلى جانب المجلس المحلي حينها.
لم يصمد "مشروع سنحيا كراما" طويلاً، فقد انهار بعد عدة أشهر وانضم أغلب أعضائه لمشروع التغيير/ حركة فجر الإسلامية، رغم أن النجاح كان سيكتب له لولا العداء الكبير الذي يكنّه أغلب قيادات داريا لبشار الفرخ وخوفهم من ازدياد قوته.