- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
يوم كان «الطرانس» الشمالي قضيتنا المركزية
مع بداية عام 2013 حدث تطوّر مفاجئ فيما يخص خدمة الكهرباء، التي قُطعت عن جنوب غرب حلب لأشهر طويلة. فبعد حاجة النظام لتشغيل محطة تحويل الزربة ليُغذي مناطق سيطرته في مدينة حلب، اضطر لتزويد مناطق الثوار بحصة ممتازة من الكهرباء القادمة من محطة محردة في ريف حماة. جرى تقسيم هذه الحصة على ريف حلب الغربي والجنوبي، وجزء من ريف إدلب، ما تسبب في قضية الطرانس الشمالي، الذي كان يوماً من الأيام محور اهتمام أهل قريتي ومصدراً للنزاع فيما بينهم.
قريتي كانت إحدى القرى الكثيرة التي استفادت من خدمة الكهرباء التي كانت تأتي على شكل عدد قليل من الساعات يومياً. لم يكن هناك جهة تتولى الأمور الخدمية ذلك الوقت، خصوصاً مع عدم وجود مجلس محلي يمثل القرية، فاضطر الأهالي إلى معالجة هذه القضية بالطريقة التي يعرفونها: انقسم سكان القرية حسب المُحوّل الذي يتبعون له في شبكة الكهرباء، أو ما يعرف بالـ «طرانس» اختصاراً لاسم المحول باللغة الانكليزية «Trans». منزلي يتبع للطرانس الشمالي الواقع على مدخل البلدة.
تلقائياً، وبفعل الحاجة الضرورية للكهرباء، صار الطرانس الشمالي أحد الممتلكات الثمينة لأبناء هذا الحي. فمع كل مشكلة تجد ممثلاً عن كل عائلة بالقرب من الطرانس فيما بات يعرف بـ «مجلس إدارة الطرانس».
أولى المشاكل ظهرت مع اليوم الأول لوصول التيار الكهربائي: فالخدمة كانت مجانية، ولم يكن أحد يدفع قيمة ما يستهلكه من الكهرباء، والجميع كان يستخدمها لتشغيل الغطاسات التي تزوّدهم بالمياه، والسخّانات للتدفئة أو لتسخين الماء. لم يكن يتحمل الطرانس أكثر من دقائق حتى ينزل قاطعه وتتوقف الكهرباء. غالباً ما كان يتشجع أحد الأعضاء ويذهب إلى المسجد ويبدأ بالنداء على السكان لتخفيف الحِمل عن الطرانس. في الغالب كذلك لم نكن نستفيد من هذه الخطوة، فالجميع كان يظن أنه غير معني بهذا النداء، وأن الطرانس لن يفصل بسبب سخّانته وغطّاسه، فقمنا بتأمين عصا خشبية لرفع القاطع كلما تطلَب الأمر.
تطوَر الأمر، لاحقاَ، إلى تمديد كابلات من خطوط الشبكة الرئيسية للاستفادة من أكبر قدر ممكن من التيار الذي لا توفره الخطوط المنزلية. بدأت الاشتباكات اللفظية بين مجلس إدارة الطرانس والمُعتدين على الشبكة العامة، وانتهت بهزيمة المجلس، الذي لم يكن المعتدون إلا أقارب أعضائه وأعمامهم وأخوالهم، وامتداد الاعتداءات لتشمل جميع رعايا الطرانس على مبدأ «مو واقفة علي».
لاحقاً، ومع استمرار وصول التيار الكهربائي بشكل متقطع ومتغير من حيث ساعات التغذية، بدأت الصراعات الداخلية تضرب مجلس إدارة الطرانس، فانقسم إلى ثلاثة مجالس لإدارة الـ «فاصمة» يستخدم كل منهم عصاته الخشبية الخاصة لرفع القواطع. فكل طرانس كان يحتوي على ثلاث فواصم تربط كل واحدة منها خطّاً يُغذي جزءاً من الحدود الإدارية للطرانس.
هذا الانقسام كان بفعل عوامل خارجية، تمثلت بتمديد خطوط لوصل الكهرباء من قبل أشخاص ينتمون لطرانس مجاور، إما لتخفيف الضغط الذي يتعرض له ذلك الطرانس، أو لزيادة خياراتهم من حيث قوة الكهرباء، وتأمينها في حال تعطل أحد الطرانسات.
هذه المشكلة قديمة، إلا أنها انفجرت بشكل مفاجئ مع احتراقٍ كاملٍ لطرانس صديق بالقرب من وسط القرية، مما استدعى مدّ المزيد من الخطوط إلى طرانسنا، فازداد الضغط عليه بشكل غير اعتيادي، واقترب مصيرنا من مصير جيراننا. وبدا أن طرانسات القرية مُهددة بالاحتراق كأحجار الدومينو.
على الفور اجتمع مجلسا الفاصمتين وقرروا قطع الكهرباء عن فاصمتنا، لأن الخرق حصل من جهتنا. لدى معرفتنا بالأمر قُمنا بالهجوم على الطرانس وقطع التيار عن الجميع. جاءت الوفود إلى مكان الطرانس على الطريق العام لحل المشكلة. قلنا لهم أن الطرانس لن يعمل إلا بالفاصمات الثلاثة، وردّ خصومنا بأن فاصمتنا لن تعمل، إلا بعد نزع التمديدات الخارجية التي تُهدّد مصير الطرانس. قطع الجو المتوتر حادث مروري أمام الطرانس مباشرة، بعد أن أدى انشغال سائق دراجة نارية بالتجمع الغريب لاصطدامه بسيارة مارّة من الجهة المقابلة. قاموا بإسعاف المصاب الذي نجا من أن يكون أول شهيد في سبيل الطرانس الشمالي.
إثر الحادث اتفق الجميع بشكل سريع على حل وسط يقضي بتشغيل الطرانس مقابل التعهد بقطع كل التمديدات الخارجية. المشكلة أن التمديدات الخارجية مجدداً لم تكن سوى للأقارب والأعمام والأخوال، فصَلهم عنا حدود رسمتها شركة الكهرباء عندما أنشأوا الشبكة لتسهيل التحكم بها.
انتهى الجدال بقطع التمديدات، بعد زيارات مكوكية للجيران لشرح الوضع الصعب الذي تمر به الجبهة الداخلية للطرانس الشمالي، والذي يُعد من أهم طرانسات القرية.
في وقت لاحق تحسنت الظروف مع شراء طرانس جديد بدلاً من الطرانس المُحترق، إضافة إلى انفصال جزء من رعايا الطرانس الشمالي، بعد أن اشتروا طرانساً خاصة بهم، للخصوصية التي يتمتع بها السكان في ذلك الجزء من القرية، من حيث عاداتهم وإمكانياتهم المادية.
للأسف، في وقت لاحق صادف خريف 2015، سيطر جيش النظام على القرية، ولم يعد هناك لا طرانس شمالي ولا جنوبي، ولا حتى سكان القرية بقوا فيها، بعد أن تركوا خلفهم بيوتهم وأراضيهم وطرانساتهم.