لم يدر في خلدي يوماً أن من أكرمناه وقدّمنا له الكثير.. حتى الحماية والأمان في وقت كان فيه ملاحقاً خائفاً..
أن تأتي اللسعة الأوجع منه.. مفرغاً سمّه في أغلى ما نملك.
كان اسمه موجوداً في كل القوائم السود التي وزعتها التنسيقيات.. على مرّ شهور الثورة الأولى. وأكّد كثيرون أن يده ملوثة بدماء الكثير من الثوار، فهو من "العواينية" المعروفين، لكننا لم نصدّق كل ما قيل. ليس هذا فحسب، إنما وفّرنا له المكان الآمن البعيد عن أيدي الجيش الحر كيلا يقتصوا منه يوماً.
وعملنا على تبييض صفحته السوداء... وكدنا نحصل على نتيجة مرضية، لولا جريمته النكراء التي كشفت المستور وبيّنت لنا أنه متحللٌ من كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية. وهو شأن كل عوايني باع نفسه للشيطان.
* *
لم يكن محمود يوماً إلا ملاكاً طاهراً نذر نفسه لما يرضي الله.
نزحنا وإخوته من حيّنا الحلبيّ الصامد "صلاح الدين"، إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، هرباً من قصف طائراته ومدفعيته، وأبى محمود الرحيل.. كان قد انضم إلى مجموعةٍ تعمل في الإغاثة ومساعدة من بقي في الحي على تأمين بعض أسباب الحياة.
كان ولدي، ككل الشباب المتطوعين هناك... بلسماً لجراح المنكوبين.. يصل الليل بالنهار. يتألم.. ويبذل الجهد في سبيل العون والتخفيف عنهم.. إخوته وأبناء حيّه الصامد. وكلّما طلبت منه البقاء معنا.. عند كل زيارةٍ لنا.. لإخوته وأخواته... كان يقول: لستِ بحاجةٍ إليّ يا أمّ.
هناك من يحتاجني في الحي أكثر. الموت هناك يا أمي...في الطرقات.. على الأبواب... الشبابيك.
أحاول أن أخفف من ثقله هناك يا غالية. كل الأمهات هناك يحتجنني. الكثير من الأطفال هناك.. أحبّهم.
هم أخوتي.. وعليّ عونهم... والوقوف معهم... الحياة قاسية هناك.. وأنا أقدّم ما أستطيع تقديمه... أصمت كل مرة.. وأحب ولدي أكثر.
* *
ـ اشتقنا لمحمود يا خالة. لمَ لا يأتي؟
. كان هنا الأسبوع الماضي
ـ لم أره... أوصاني أن أجهّز له بعض الأوراق.. يا ليت تخبريه...
ألحّي عليه بالقدوم يا خالة... عندي له مفاجأة كبيرة سيفرح بها.
* *
في الصباح الباكر كان ولدي بيننا.. كعادته كل مرة، يجلس ونحن نحيط به على شكل دائرة. يروي ما مرّ به هناك.. القصف.. الموت.. الدمار... والأطفال.. مقالبهم. قصص الشيوخ والعجائز.
وبطولات إخوته في الجيش الحر.. تضحيات أصدقائه في الجمعية الإغاثية التي تطوّع بها. وكان أخوه الأصغر يغفو على فخذيه النحيلين حينما هب واقفاً مبهوتاً..وهبّ معه الجميع...
الأبواب تكاد تنخلع من شدة الطرق والدفع..
ـ سلّم نفسك محمود.. البيت محاصر.
ـ سامحك الله يا أمي. وقعت على أذني كزوبعةٍ هزّت كياني وارتميت مغشيّاً عليّ.
* *
لا زلت أنتظر محمود.. طالت غيبته كثيراً. ومازلت أبحث عن ذاك الـ"عوايني" لأنظر في عينيه الغادرتين.. الخائنتين.
وأقول في سري: كم هي جميلة عينا ولدي محمود!