نتائج الأحداث وآثارها في ديرالزور (7) من (7)

مشهد من حماة بعد مجزرة عام 1982

لا توجد إحصاءات دقيقة لأعداد المعتقلين الإسلاميين في محافظة ديرالزور، لكن ما توفر من قوائم أعدَّها إخوان بعد الأحداث بفترة وجيزة، تتجاوز الألف معتقل بينهم عدد من أصحاب التوجه الصوفي، ومن معتقلي التظاهرات وأقارب الإخوان أو المتعاونين معهم، وأكثر هؤلاء استشهد في الإعدامات أو أثناء التعذيب، وخرج بعضهم من السجون بعد أن أمضوا فيها سنوات طويلة.

كانت الأحداث فرصة لحافظ الأسد كي يعزز من سلطته المطلقة، ويستمر في سياساته الأمنية ويشدِّدها أكثر فأكثر، وانفتحت أبواب التسلط والفساد والنهب على مصاريعها، وتأكد كل ما قيل سابقاً من أن حافظ الأسد لم يكن معنياً بإقامة دولة أو نظام حكم، وأن سياساته كلها لا تعدو توطيد سلطته هو وحلفاؤه من مافيا الميليشيات الطائفية وأجهزة المخابرات التي تغولت بعد أن توطدت سلطتها، بعكس ما كان يُفترض أن يحدث من تخفيف وتهدئة.

وحسبنا أن نذكر هنا أن عمليات التعذيب السادي لم تتوقف لحظة واحدة، بل تفاقمت حتى أصبحت متعة يمارسها الجلادون، وأن الإعدامات استمرت لأكثر من عقد بعد أحداث حماة، وذهب ضحيتها أكثر من ثمانية عشر ألف شهيد.

استغلت السلطة حالة الخوف والرعب لدى أهالي المعتقلين والمهجرين، لتستمر في الضغط عليهم وملاحقتهم على مدى أكثر من خمسة وعشرين عاماً، لم تتوقف خلالها التحقيقات والاستدعاءات وما يسمى بالدراسات الأمنية، التي شملت حتى المفرج عنهم. 

والحديث هنا عن معاناة الأهالي والملاحقة الحثيثة لهم وابتزازهم بشأن ذويهم من المعتقلين ومعرفة مصيرهم، من الأمور التي تُدمي القلب، والتي أصبحت تجارة رابحة لدى أزلام السلطة ولدى أقاربهم، جمعوا من خلالها الأموال الطائلة، بمخادعة أهالي المعتقلين وابتزازهم وتقديم الوعود الكاذبة لهم. فكم من أب أو أم باع كل ما يملك وما فوقه وما تحته ليعرف مصير ابنه لكنه لم يصل إلى نتيجة، ناهيك عن الإذلال والتحقير والجرجرة وما إلى ذلك من هذه الممارسات المؤلمة. 

بلغ بالسلطة أنها كانت تجبر أهالي الملاحقين على السفر إلى حيث يقيم أبناؤهم أو ذووهم وتهددهم بمنعهم من العودة ما لم يحضروهم معهم أو يدلوا بمعلومات حول هؤلاء، حتى بلغ الخوف ببعض الأهالي إلى أنهم كانوا يقطعون الصلة نهائياً بأبنائهم، وكذلك كان أكثر المهجرين يتجنب الاتصال بأهله أو ذويه، وحتى في أيام الحج كان الناس يتهربون من بعضهم البعض خشية ما سيكتبه عنهم الجواسيس والمخبرون.

وأما المهجرون فيمكن الحديث عن الآلاف من الإخوان ومن تضرر معهم أو بسببهم، ومن سائر الإسلاميين مثل جماعة زيد وجماعة أبي ذر والجماعات الصوفية والسلفية، كجماعة الشيخ عبد القادر عيسى وجماعة الشيخ ناصر الدين الألباني وبعض العلماء والمشايخ الآخرين، تركز أكثرهم في العراق والأردن ودول الخليج، وهاجر بعضهم إلى أوروبا ودول أخرى. 

هؤلاء بشكل عام ظلوا تحت الملاحقة الدائمة، وحرموا من الوثائق الرسمية كالشهادات والأوراق الثبوتية وجوازات السفر وما إلى ذلك، وصودرت ممتلكاتهم في سورية، ومن يحاول استخراج وثيقة أو قيد مدني لأي منهم قد يكلفه ذلك أن يمضي حياته في السجن.

منذ احتدام الأحداث، بادر الإخوان أولاً إلى تقديم المساعدات لعوائل الشهداء والمعتقلين والمتضررين منها، ووضعوا لذلك قوائم بأسماء هؤلاء وفق سلم مدروس بعناية، وكان المصدر الرئيسي لها هو اشتراكات الإخوان وتبرعاتهم، فقد كانت اشتراكات الإخوان عشرة بالمائة، يدفعها الأخ من دخله الشخصي، وبعضهم يزيد على ذلك، واستمروا على ذلك لسنوات طويلة. وعندما اتسع نطاق الأحداث، وتضاعفت التبعات والأعباء وخاصة بعد كارثة حماة الرهيبة، بات الإخوان أمام مسؤوليات وتكاليف هائلة؛ آلاف المشردين والأيتام والأرامل والعوائل وعوائل المعتقلين والمنقطعين الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم ومدنهم وقراهم والبحث عن ملجأ آمن في أي مكان، ويمكن الحديث هنا عن الجهود الكبيرة التي بذلها الإخوان وأصدقاؤهم ومعارفهم من مختلف البلاد، والتعاون الذي أبداه كثير من التجار ورجال الأعمال الإسلاميون وغيرهم في هذا الجانب.

كان على الإخوان بعد هذا أن يبحثوا عن الوسائل الآمنة لإيصال المساعدات، بعيداً عن أنظار السلطة وجواسيسها ومخبريها، وهي مسألة محفوفة بالمخاطر والتبعات، خاصة وأن المساعدات تأتي من خارج سورية، حتى أن بعض العوائل كانت ترفض المساعدة خوفاً من أن تصل المعلومات إلى السلطة، وقد حدث هذا مراراً، وبعضها لم يتمكن أحد من الوصول إليهم، وبعضها اعتذر عن أخذ المساعدة لعدم حاجته إليها.

استمر تقديم المساعدات لسنوات طويلة، وفي بعض الحالات استمر حتى أحداث الثورة السورية، وفي حالات كثيرة كانت تقدم مساعدات خاصة للمفرج عنهم لكي يتمكنوا من استئناف حياتهم من جديد.

كانت النتائج كارثية، فهناك آلاف من المهجرين معظمهم من الشباب، وأعداد كبيرة من العوائل التي التحقت ببعضها على فترات، لجأوا إلى العراق والأردن وتركيا ودول أخرى، وكان معظمهم بحاجة للمساعدة، وخاصة في الشهور والسنوات الأولى، إضافة إلى أعداد كبيرة من العوائل التي تشتت بسبب الأحداث، بحاجة إلى لم شمل وخاصة لمن تركوا زوجاتهم وأولادهم في سورية. وأعداد كبيرة من الخريجين والاختصاصيين وأصحاب المهن والحرف بحاجة لفرصة عمل ليكفوا أنفسهم ومن يعيلون، وأعداد كبيرة من الطلاب بحاجة لفرصة لإكمال دراستهم التي انقطعوا عنها بسبب الأحداث، وآخرون لإكمال دراستهم الثانوية أو الابتدائية.

وسط كل هذا ظهرت مشكلة الوثائق والثبوتيات، سواء لمن يريد الدراسة أو العمل أو الانتقال من بلد لآخر بحثاً عن فرصة هنا وهناك، أو توثيق حالات الزواج والولادات وما إلى ذلك. كما ظهرت أيضاً المشكلات السياسية والأمنية، وخاصة بعد أن بات أمر الإخوان مكشوفاً أمام الدول، وبين أيدي مخابراتها، وصار من المستحيل الإتيان بأدنى حركة دون علم السلطات هنا أو هناك.

 

*من مواليد ديرالزور 1954، مهتم بتاريخ سوريا المعاصر والحركات الإسلامية، عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ 1973، عضو سابق في مجلس شورى الجماعة ومكتبها السياسي.