- الرئيسية
- مقالات
- ديرالزور من الذاكرة
ديرالزور من الذاكرة.. الإخوان والسلطة ما قبل الصدام (٣) من (٧)
تركز النشاط الدعوي للإخوان على استقطاب المتعلمين والطلاب الجامعيين بشكل رئيسي، واعتمد عليهم في التوسع والانتشار، وتوجيه هؤلاء جميعاً نحو المساجد ودروس العلم والتربية على اعتبارها المجال الأول الذي تعتمد عليه الجماعة في برامجها ومناهجها.
وعلى سبيل المثال، فإن عدداً غير قليل ممن يذهبون للدراسة أو الخدمة العسكرية سرعان ما يجد نفسه وسط مجتمع الإخوان والشباب الإسلامي وفي بيئتهم، يوثقون صلتهم به، ويرشدونه إلى المساجد ودروس العلماء، كجزء من برنامجهم. وكانت روح التعاون والتفاني في أعلى درجاتها، ويمكن الحديث هنا عن الدور المهم لعدد الشباب المميزين بشخصياتهم وثقافتهم وقدراتهم، وتأثيرهم الكبير في ضم العشرات من الشباب والطلاب إلى صفوف الحركة، وربما لا تسعفنا الظروف الأمنية بصورة خاصة لذكر الأسماء، إلا أنه وعلى كل حال، فقد كان هناك الكثير من الشباب الناجحين في أعمالهم واختصاصاتهم، وشغلوا مراكز مهمة في المجتمع، وفي نطاق المؤسسات والمشاريع التي عملوا فيها.
من المهم هنا أن نعود مرة أخرى للتأكيد على أهمية فكرة العمل المسجدي، التي تبناها الإخوان في برنامجهم لتثقيف الأفراد ونشر الدعوة في الأوساط الاجتماعية، وتحفيز النشاط الديني والإقبال على العلماء والدروس الدينية في فترة السبعينيات، والذي يقودنا بدوره للتأكيد بالمثل على أهمية جهود العلماء الذين فرّغوا أوقاتهم للتعليم وإلقاء الدروس والمحاضرات، والاهتمام بالشباب والناشئة علمياً وتربوياً.
تحولت مساجد كثيرة إلى ما يشبه المدارس والمعاهد العلمية، تبدأ فيها الدروس من الصباح وحتى ما بعد العشاء، وكان بعض العلماء يستضيفون الدروس في بيوتهم منذ صلاة الفجر، كما كان يفعل شيخ القراء، يفعلون ذلك لساعات الطويلة وبكل رحابة صدر. وتنوعت الدروس لتشمل التلاوة والتجويد وحفظ القرآن وأحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وعلم التفسير والحديث والعقائد والمنطق والتاريخ واللغة العربية وعلومها كالنحو والصرف والبلاغة والأدب. ناهيك عن الاهتمام بالفكر والأدب الإسلامي والنشيد والشعر الذي ازدهر في تلك الفترة وانتشر كما تنتشر النار في الهشيم.
أسوق هذه التفاصيل هنا لأبيّن أن الصعود الإسلامي لم يكن مجرد كلمة أو مصطلح، وأن الإسلاميين كانوا على مستوى عال من العلم والثقافة، وتمتع أكثرهم بالبصيرة والروح النقدية التي تمكنهم من التمييز بين الغث والسمين.. ولم يكونوا بسطاء وساذجين ومنغلقين ومتخلفين، فثقافتهم لم تكن سطحية أو تلقيناً أو تقليداً، كما قد يتوهم البعض، ومظاهرهم لم تكن تبعث على التقزز والقرف، كما وصفتهم كتب أكثر المفكرين الحداثيين، التي نعتتهم بصفات ومصطلحات مقيتة ومنفرة وغير لائقة، وحكمت عليهم بأنهم خارج عصرهم لمجرد أنهم ملتزمون ويتبنّون الإسلام كمنهج ورسالة ومبادئ، كما فعل عبد الله العروي وغالي شكري ومحمود أمين العالم وعابد الجابري ورفعت السعيد وحسنين هيكل وفالح عبد الجبار ومصطفى حجازي ومحمد حافظ ذياب وسمير أمين وفؤاد زكريا ونبيل عبد الفتاح وكثير غيرهم. بل ذهب بعض أولئك المفكرين إلى ضرورة عزلهم والحجر عليهم واستئصالهم، حتى قال أحدهم: "إن طريق التقدم العربي معبدة بأشلاء الرجعيين والظلاميين الذين حالوا دون وصول المستنيرين العرب إلى جنتهم الديمقراطية"، وأثنى آخرون على مواقف الأوروبيين، والفرنسيين خاصة الذين طاردوا الإسلاميين ونظموا الحملات لملاحقتهم واعتقالهم وترحيلهم عن الأراضي الفرنسية، وحثوهم على ذلك وأكثر منه.
يجدر أن نشير كذلك إلى أن أكثر الذين تصدوا لتعليم الشباب وتثقيفهم لم يكونوا من نوعية مشايخ السلطة أو أصحاب المصالح الضيقة، كما قد يتبادر إلى الذهن، وكما يجري تعميمه اليوم بالنظر إلى أولئك الذين أيدوا السلطة ودافعوا عن مواقفها المشينة. فمن نتحدث عنهم كانوا من الدعاة والعلماء الذين كانوا على درجة عالية من العلم والخلق والإخلاص، وعلى وعي جيد بنوعية الطلبة الذين يدرسونهم، والرسالة التي ينبغي أن يحملوها، والمواقف والتحديات الأيديولوجية والسياسية التي كانت سمة تلك الفترة. وعلى الرغم من أنهم كانوا بعيدين عن السياسة، حفاظاً على الجو العلمي وتجنباً للمحظورات الأمنية، إلا أنهم كانوا يواجهون بقوة المواقف التي تمس القيم الدينية والاجتماعية والسلوكيات العامة، وهناك الكثير من المواقف الشاهدة على ذلك منذ الستينيات والسبعينيات.
قد يبدو غريباً بعض الشيء أن تنشط الصحوة الإسلامية في السبعينيات، وهي فترة ساد فيها القمع والاعتقال والتشديد الأمني، ولوحق فيها العلماء والدعاة ونُكّل بهم. لكن يمكن عزو هذه المسألة إلى عوامل عدة، من بينها أن السلطة انشغلت لفترة بصراعاتها الداخلية، وإعداد القوى العسكرية والحزبية وأجهزة المخابرات والميليشيات التي تم تأسيس أكثرها والتوسع فيه مع بداية السبعينيات وحكم حافظ الأسد، كما أن الأجواء السياسية في ذلك الحين لم تشهد اضطرابات أو احتجاجات سياسية واسعة كما في الستينيات، والنصف الأول منها على الأخص، وباستثناء حوادث الدستور عام 1973التي وقف وراءها الإسلاميون، فإن الساحة السياسية في تلك الفترة اتسمت بالجمود والخوف والانكماش، يُضاف إلى ذلك أن هذا الصعود لم يكتسب صفة سياسية، لكونه ارتبط مباشرة بالعلماء والمشايخ الذين كانوا حريصين إجمالاً على الابتعاد عن السياسة.
أما بالنسبة إلى الإخوان فلم يظهروا على الساحة، وكان عملهم سرياً بسبب حل التنظيم، كما لم تكن لهم نشاطات معلنة كتوزيع منشورات أو ما شابه ذلك، وحتى العمليات المسلحة التي حدثت لاحقاً، لم يوجّه لهم الاتهام فيها إلا بعد حادثة المدفعية منتصف عام 1979. إلا أن وجودهم كان معروفاً وإن لم يكن معلناً، كما أن التضييق والملاحقات والاعتقال والسياسات التعسفية تجاههم لم تتوقف منذ الستينيات، وتصاعدت وتيرتها في السبعينيات.
والحقيقة أنه -وباستثناء المشايخ الموالين للسلطة وبعض الجماعات المحسوبة عليها وعلى رأسهم الشيخ أحمد كفتارو- فإن علاقة الإسلاميين بالسلطة في حقبة البعث لم تكن يوماً ما على ما يرام منذ انقلاب 8 آذار، كما أن مواقف السلطة تجاه الإسلام نفسه، وما يتعلق به في مؤسسات الدولة كالتعليم والأوقاف والإعلام والداخلية اتَّسمت بالسلبية والعدوانية، ووقعت منذ الستينيات العديد من الحوادث والاصطدامات الدموية كما في أحداث حماة 1964، وتعرض الإسلام في تلك الحقبة لكثير من التهجم والتسفيه من قبل إعلام السلطة، وعلى ألسنة أتباعها.
في هذا الصدد تأتي مقالة إبراهيم خلاص في مجلة جيش الشعب عام 1967 التي تهجم فيها على الإله وعلى الأديان والإسلام، وأثارت في حينها اضطرابات واحتجاجات واسعة. كما أن حملات الاعتقال والتعذيب تصاعدت وتيرتها منذ أحداث الدستور المشار إليها، حتى باتت أخبارها على كل الألسنة.
بالنسبة إلى الإسلاميين فقد أكد دستور 1973، والسياسات التي سبقته وتلته، وجود توجه معادٍ للإسلام ولثقافة المجتمع ومبادئه، الأمر الذي اتضح في اعتماد الحزب قائداً للمجتمع والدولة، ومباشرة العمل وفق مقتضى هذه المادة وحزمة المواد التي رافقتها، والبدء بتنشئة أجيال من الأطفال والشباب والنساء على عقيدة الحزب ومبادئه، وتطبيق ذلك من خلال الطلائع والشبيبة والاتحاد النسائي وغيرها، والمعسكرات المختلطة، وتسخير مؤسسات التعليم والإعلام والتوجيه الديني الرسمي لهذا الغرض، وبدأت آثار هذه السياسة تظهر بوضوح في الثقافة والسلوك الفردي والجماعي، على المستوى العام وليس لدى منتسبي الحزب والمؤسسات التي تهيمن عليها السلطة كالجيش والمخابرات والميليشيات وحسب.
وإذا أضفنا إلى هذا التوترات الآخذة في التصاعد، والناجمة عن سياسات السلطة في تطييف الجيش وأجهزة المخابرات والميليشيات وتعبئتها لصالح الحزب والطائفة، ومنحها الصلاحيات الواسعة، ناهيك عن حملات الملاحقة والاعتقال والتعذيب التي لم تتوقف بل ازدادت وتيرتها في تلك الفترة نظراً للتعبئة الهائلة التي قامت بها السلطة، وفي ضوء هذا كله يمكن للمرء أن يتوقع بسهولة ما سوف ينتج عن تلك السياسات المتهورة، وما ستؤول إليه الأوضاع في ظل تلك الأجواء المتفاقمة.
من مواليد ديرالزور 1954 مهتم بتاريخ سوريا المعاصر والحركات الإسلامية، عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ 1973، عضو سابق في مجلس شورى الجماعة ومكتبها السياس