- الرئيسية
- مقالات
- ديرالزور من الذاكرة
الطَّليعة المقاتلة في ديرالزور واتجاه الإخوان إلى السلاح.. والخارج (6) من (7)
توجَّه عدنان عقلة* إلى محافظات أخرى في محاولة لتوسيع المواجهة مع السلطة، والتخفيف عن مدينة حلب التي استشهد منها المئات في صيف عام 1980 وحده، وكانت ديرالزور من المحافظات التي قصدها، وربما شجَّعه على هذا التوجه التحاق بعض أبناء الدير بتنظيم ”الطليعة المقاتلة" في حلب، ويُعرف منهم الطالب الجامعي إبراهيم عجاج، الذي استشهد مع زوجته وطفله في إحدى المداهمات والاشتباكات مع قوات السلطة.
كانت الدير إحدى الوجهات التي لاقى فيها عدنان عقلة فيها استجابة كبيرة، لكنها انحصرت ولأسباب عدة، في جماعة الأستاذ عصام العطار على وجه التحديد، واندفع للالتحاق بها عشرات الشبان بحماسة منقطعة النظير، وخلال فترة قصيرة أصبح لـ“الطليعة“ تنظيم قوي في ديرالزور، على رأسه الأستاذ هاشم شعبان وشخصيات أخرى معروفة.
الأستاذ هاشم شعبان شخصية معروفة في ديرالزور، له مكانة طيِّبة وشعبية كبيرة بين الشباب من طلاب المدارس الثانوية، لطبيعة شخصيته المحببة وطيبته ودماثة خلقه، وكان من أنجح أساتذة الرياضيات في المحافظة، يعطي الدروس الخاصة المجانية، ولا يتوانى عن تقديم المساعدة لأحد. وكان عاملاً أساسياً في الاستجابة السريعة لدعوة ”الطليعة“ بعد أن تبنَّاها بنفسه، وأسس من خلالها وجوداً فعلياً لهذه الجماعة في ديرالزور استمر لفترات طويلة لاحقة، حتى بعد أن غادر أفرادها سورية، وكان لها تمثيل سياسي في بعض الدول تولاه أحياناً أفراد من ديرالزور، ولعل هذا الأمر يفسر عودة الطليعة للظهور مجدداً فيها في أحداث ثورة 2011.
كانت عشوائية النظام في الملاحقات والاعتقالات قد طالت مئات من الشباب من غير الإخوان والطليعة، وجعلت حالهم حال الإخوان والطليعة، وبنفس الطريقة وضعهم أمام خيار الموت في المواجهة أو تحت التعذيب أو الإعدام، وهكذا آثرت أعداد كبيرة أن تواجه النظام بينما اعتقل وفر إلى الخارج كثيرون.
وهكذا رافق الاستجابة التي لاقتها الطليعة في ديرالزور، الكثير من الاندفاع والحماس والتسرع، دون إعداد وتهيئة، في منطقة مثل ديرالزور بعيدة عن مركز السلطة، ولم تكن فيها مجموعات مسلحة بالأساس، وجاء ذلك مع تسارع احتدام الصراع، مما أدى إلى الكثير من الارتجال والفوضى التي بدت بوضوح على تصرفات أكثر الشباب، وكان بالإمكان ملاحظتها بسهولة من خلال كثرة الحركة والتنقل، والتجمعات العلنية أمام أبواب المساجد، والقيام ببعض الأعمال المتهورة، ما أدى إلى رصدهم وسرعة ملاحقتهم، خاصة وفق طريقة السلطة التي تعتمد العشوائية في الملاحقة والاعتقال، دون انتظار وتحديد المطلوبين بالضبط.
لم تحصل في ديرالزور صدامات مسلحة، باستثناء عمليتين فشلت أولاهما قبل أن تبدأ، واعتقل أحد منفِّذيها ونجا الآخر، في حين استهدفت الثانية العقيد أحمد سليمان قائد الشرطة العسكرية في المحافظة (ابن خالة حافظ أسد)، وأدت إلى مقتله، لكن العملية لم تكن محكمة بحيث تم التعرف على الفاعلين، والقيام بحملة اعتقالات واسعة النطاق طالت العشرات من أقارب الملاحقين وذويهم، وتفاقم الوضع في المحافظة بصورة سريعة.
ومع صدور القانون 49، تضاعفت حملة الملاحقات والاعتقالات في الريف والمدينة، وربما ساعدت اعترافات بعض المعتقلين على توسيع دائرة الملاحقات، إلا أن تعمُّد الاعتقال العشوائي من قبل السلطة، والذي طال أهالي الملاحقين وأقربائهم ومعارفهم وأخذهم بصفة رهائن، ضاعف أعداد المعتقلين بصورة كبيرة، واضطر أعداداً إضافية أخرى إلى مغادرة سورية. وقد بات من الأمور المسلمة، أن يصبح الموت هو الخيار الوحيد المتاح، سواء في المواجهات المسلحة مع السلطة، أو تحت التعذيب أو بالإعدام.
يذكر هنا أن جماعة الإخوان وبالتنسيق مع الدول المجاورة، ساعدت في إخراج أعداد كبيرة من الملاحقين وعوائلهم وعوائل المعتقلين من سورية، وكان لعدد من أبناء المحافظة دور كبير في هذه العملية، وإيصال الكثيرين إلى برّ الأمان، حتى ما بعد أحداث حماة وصيف 1982.
أصبح الأستاذ هاشم شعبان ممثلاً للطليعة في العراق، وقام من خلال عمله هذا بمساعدة الكثير من السوريين بصرف النظر عن انتماءاتهم؛ لكنه ابتعد قليلاً عن العمل الرسمي عام 1981 ثم عاد ليظهر مجدداً وبقوة بعد أحداث حماة، ويقود مفاوضات مع السلطة أدت إلى عودته إلى سورية مع عشرات من الشباب الذين كانوا على رأيه.
استمرت هذه العودة حتى عام 1984، لكنها لم تشمل سوى أعداد قليلة. وقد نُقل عنه أنه بذل قصارى جهده في التخفيف من آثار الأحداث والحد من الملاحقات وتسهيل عودة البعض، ولم يطل به العمر حتى توفي بعد سنوات قليلة، وبدا أنه تأثر كثيراً بغدر رجال السلطة به وعدم التجاوب معه كما وعدوه (حسبما نقل بعض المقربين منه) وربما بغدر السلطة بزميله عدنان عقلة الذي استدرج إلى سوريا في الفترة نفسها التي كان هاشم شعبان يتفاوض فيها مع السلطة، ليقع في قبضة المخابرات مع حوالي ثمانين من شباب الطليعة ما لبثوا أن أُعدموا جميعاً، وكان بينهم عدد من الديريين.
لم يكن خيار مغادرة سوريا متاحاً أمام الجميع، فاضطر الكثيرون إلى الاختباء والتخفي بانتظار وسيلة ما، لكنهم سرعان ما يُعتقلون لأسباب باتت أسهل من أن تُذكر، كما حدث مع العشرات من شباب الإخوان الديريين الذين كانوا في دمشق، بعد أن داهمت المخابرات منزلهم وأقامت فيه لفترة طويلة، وصارت تعتقل كل من يأتي إليه حتى تجاوز عدد المعتقلين 45 شخصاً بينهم الأخوة هشام بجعة ونبيل السراج، والكثير ممن لا علاقة لهم بالإخوان.
كان الأمل بإمكان إسقاط السلطة أو تغييرها، قد شجع الإخوان على التفكير ولأول مرة ببدائل جدية، تمثلت بحركة انقلابية يقودها ضباط عسكريون، وهو الأمر الذي رفضه الإخوان في مرات سابقة كما ورد في مذكرات عدنان سعد الدين، لكنهم هذه المرة قبلوا بالتعاون مع ضباط لم يكونوا تابعين للإخوان لكنهم أبدوا استعدادهم للتعاون معهم، خاصة وقد بدت الأجواء السياسية مشجعة إلى حد كبير، فكان هذا العامل الحاسم الذي دفع الإخوان لتشجيع ما تبقى من أتباعهم على مواجهة النظام وعدم الاستسلام له، ومن ثم البحث جدياً في تسليحهم، لأنهم سيكونون بحاجة ماسة لهم في حال حدوث عملية الانقلاب التي يجري التحضير لها. فكان أن أصدر الإخوان قراراً بمواجهة النظام، والبدء بتدريب وتسليح مئات الشباب كلهم كانوا خارج سورية، بانتظار ما سيحدث.
كان إبعاد بعض الشباب إلى الخارج خطوة اضطرارية، لكنها شجعت الإخوان على المضي قُدُماً في الانفتاح السياسي على بعض الدول، لاسيما المجاورة لسوريا، ليس لتسهيل خروج الشباب وحسب، وإنما لإيصال وجهات نظرهم، والبحث عن سبل للتعاون في تحقيقها.
نجحوا أولاً في تركيا التي كان الإسلاميون فيها في بداية صعودهم. لم يكونوا في السلطة لكنهم قدموا تسهيلات في هذا الصدد، أتاحت للإخوان إقامة أولى صلاتهم الخارجية عام 1977، وساعدتهم في إيواء العديد من الملاحقين. ومع أن عدداً من الشباب لجأوا إلى العراق في الفترة نفسها، إلا أن توجه الإخوان نحو العراق تأخر حتى أواخر عام 1979، بعد أن تفاقمت الأحداث وزادت بكثرة أعداد المهجرين.
تتالت بعد ذلك العلاقات السياسية خاصة بعد انفجار الأحداث، واستقبل الإخوان في العديد من الدول بحفاوة كبيرة، مثل مصر والمغرب وماليزيا وباكستان وإندونيسيا والسعودية وسائر دول الخليج، ويمكن الحديث عن حقبة ذهبية في النشاط السياسي للإخوان، اتسعت لتشمل العلاقة مع عشرات الجهات الحكومية والحزبية والمؤسسات المدنية، مما كان له أكبر الأثر في تخفيف المشكلات الكبرى التي أعقبت الأحداث.
*عدنان عقلة: قائد تنظيم ”الطليعة المقاتلة“
معاذ السراج: من مواليد ديرالزور 1954، مهتم بتاريخ سوريا المعاصر والحركات الإسلامية، عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ 1973، عضو سابق في مجلس شورى الجماعة ومكتبها السياسي.