- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
مواطن الدرجة الأولى (6)... من الجيل الأوّل إلى الجيل الثاني
لم ينتشر خبر تورّط أبو شدّاد بالعمل في تهريب الدخان، بسبب التعتيم على الموضوع، ولعدم اعتقاله حتى الآن. ورغم ذلك لم يفقد الكثير من الأهالي حدسهم عن سبب ذلك التعنّت الذي مارس به أبو شدّاد وغيره صلاحياتهم، أو هوسهم، إلى أبعد مدى.
الجيل الأوّل
انتشر الخبر المتعلق بالأشخاص الذين اعتقلتهم "الشرطة الإسلامية" في حيّ الحميدية. لكن المقرّبين من التنظيم في المدينة فقط عرفوا، بعد التحقيق الذي قام به "الوالي" مع المعتقلين –وهم امرأتان وعنصران من التنظيم- أن وراءهم عشرة عناصر، غالبيتهم من الدير، يقومون بعمليات التهريب بسيّارة أبو شدّاد، راعي الإبل السعوديّ (كما يعرّف نفسه). وقد اشتهر الأخير على نطاقٍ واسعٍ منذ توليه منصب أمير الحسبة، حين استعمل سلطته في ملاحقة مخالفات النساء خاصّةً. وقد رأى فيه الأهالي وقتها مهووساً جنسياً لا متعصباً دينياً. ونتيجة كثرة الشكاوى ضدّه، والمشاجرات التي كان طرفاً فيها، نُقل إلى الحواجز –بما يشبه الاعتراف بالتفوّق- ليشغل "إمارة" حاجز الجسر -المدخل الوحيد إلى المدينة- ويكمل مسيرته في التفتيش عن الدخان وابتكار الطرق في ذلك (كإرسال مراقبين مع السيارات عند إنزال الحمولة، أو فكّ الدواليب). كما استحدث حاجزاً لتفتيش النساء تولّته زوجته. وبما أن الدخان ظلّ يدخل إلى المدينة، ولكن بأسعارٍ جنونيةٍ (تباع علبة "الحمراء" خارج المدينة بمائة ليرةٍ تقريباً، أما داخلها فبخمسمائة)؛ فقد حدس الأهالي أن وراء صرامة أبو شداد مؤامرةً لمحاولة احتكار تجارة الدخان. وكان هذا الحدس قد طال قبلاً أبو الطيب المنصوري، أمير المكتب الخدميّ، الذي اعتقل مؤخراً لمدّة شهرٍ، وجرّد من منصبه، بسبب سرقة المازوت وصفقاتٍ مع التجّار وتزوير فواتير. وقد حالت قرابته مع أبو محمد العدنانيّ دون إنزال عقوبةٍ أشدّ به، بحسب بعض المطلعين، الذين يضيف أحدهم ساخراً: "هذول وجه السحارة"، في إشارةٍ إلى مساهمتهم الكبيرة في قيام التنظيم وتمدّده، مما جعلهم يعدّون من المؤمنين به وفق أيّ تصنيف.
الجيل الثاني
وهؤلاء أقل تحفظاً في استعمال الفتاوى، وأكثر احتفاءً بالمظاهر، وأقلّ اطلاعاً على العلوم الدينية. ويختزل الأهالي ماضي بعضهم بالمثل المشهور "حارتنا ضيقة ونعرف بعضنا".
وبحسب مصدرٍ في الموارد البشرية في التنظيم فإن عدد المنتسبين إليه في "ولاية الخير"، منذ ثلاثة أشهرٍ، يتجاوز 700 شخصٍ في الشهر. كما أن ضعف هذا العدد، منذ أربعة أشهرٍ على الأقلّ، يوجد على الدوام في الدورات الشرعية. ولذلك أعطى الأمنيون موعداً في كانون الثاني القادم لبعض المنضوين تحت السبب الثامن للردّة، بحسب أفكار التنظيم، "مظاهرة المشركين"، لحضور الدورة. ويجبر التنظيم على حضور هذه الدورات أفراداً من عشيرة الشعيطات التي ناوأته، أو عناصر سابقين في الجيش الحرّ أو جبهة النصرة أو أحرار الشام، أو منشقين عن جيش النظام، وغيرهم. ويُعفى من إكمال الدورة كلّ من يرغب في بيعة التنظيم، دون أيّ اعتبارٍ أو شرطٍ، كإتمام الوقت المحدّد، أو اجتياز الامتحانين الشفهيّ والكتابيّ. وبحسب شهادات العديد من الذين حضروا الدورة، فإن الشرعيين القائمين عليها يحاولون الضغط على الحضور لدفعهم إلى البيعة عبر اتهامهم بالجبن، أو بتحريضهم على "تحرير الأعراض" من قبضة النظام. ورغم ذلك لم يجبر التنظيم أحداً على بيعته. لكن من الجدير معرفته هنا أنه يمنح عناصره بدل زواجٍ وكفالةً للأطفال، ويوفر جميع احتياجاتهم بأسعارٍ رمزيةٍ، ويفضّلهم في الأمور الخدمية، بالإضافة إلى الراتب. وقد دعا التنظيم المناصرين (وهم مجموعاتٌ صغيرةٌ في المدينة ظلت تحوز سلاحها الخفيف وتقاتل النظام على الجبهات تحت راية التنظيم ولكن دون بيعة) منذ أيامٍ إلى بيعته، متعهداً بعدم نقلهم من المدينة، الأمر الذي يفعله عادةً مع المبايعين الجدد الذين يستخدمهم في جبهات عين العرب والحسكة والعراق وغيرها. وقد نقل إعلاميون عن عناصر عادت من هناك أن الأمراء يلقون بهم في الخطوط الأمامية ويقطعون قنوات الاتصال بهم. ويعمدون، في بعض الأحيان، إلى فتح النار عليهم من الخلف لمنعهم من الانسحاب.
الكذب.. المحسوبية.. الرشوة
عندما دخل التنظيم إلى المدينة ناشد ناشطون "الوالي" أبو حفص الجزراويّ السماح للمنظمات الإغاثية والإنسانية بالعمل، فردّ يومها: "والله أن نموت جوعاً لأحبّ إلينا من أن يكون لأحدٍ علينا منّة". لكن الجميع يعرف الآن مدى اعتماد التنظيم الكبير على ما تقدّمه، خاصّةً، منظمة ميديكال ريليف الأمريكية في مجال الصحة العامة.
كما اشتهر عن الأمنيين الكذب لإنكار أية علاقةٍ تربطهم باختفاء أو اعتقال أيّ شخص. ومن غير الممكن، في الوقت الحاليّ، معرفة إن كان ذلك مشرّعاً لهم، أي أنهم يستعملونه بحسب فتوى من شرعييهم، أم لا. ويلاحظ البعض "أن تسليط إعلام التنظيم الضوء على جوانب معينةٍ وتضخيمها هو أكبر كذبٍ يمارسه". ولعلّ ما حدث في يوم 25 أيار المنصرم يكشف عن بعض أكاذيب التنظيم، عندما ملأت أصوات مضادّاته سماء المدينة، ليعلن عن إسقاط طائرتين من قوّات النظام. لكن أحد إعلاميّي التنظيم نفسه كشف أن الخبر كاذبٌ، وأنه جاء للتنفيس عن الأهالي بعد فظائع حملة البراميل، وأن المعركة في ذلك اليوم، بكاملها، مفتعلة.
أما المحسوبية فلا تعدّ أمراً مقبولاً فقط، بل مرغوباً ومطلوباً. ويعيدها البعض إلى جهل التنظيم بسكان المناطق التي يسيطر عليها، فيعتمد على بعض الأشخاص الذين يثق بهم من الوسط كمدخلٍ إليه. ثم دفعت البنية العشائرية للكثير من العناصر المحليين بالمحسوبية إلى أقصاها. لكن الوجود الكبير للمحسوبية، وتشريعها على النحو التي هي عليه، يوحي بأكثر من ذلك، إذ يربطها البعض بعلم الرجال (أحد علوم رواية الحديث النبويّ) الذي يعتمد عليه التنظيم في تشريع أفكاره. وتعدّ "التزكية" صيغةً رسميةً مخففةً عن المحسوبية. وهي تدخل في كلّ الأمور الإجرائية تقريباً؛ إذ يحتاج إليها المعتقل للتسريع في إجراء التحقيق معه، ثم لإطلاق سراحه بشرط بقائه في "أراضي الخلافة"، أو العفو عنه. كما يُشترط في الشخص الذي يدلي بشهادته أن يزكّيه اثنان من عناصر التنظيم. والشرط ذاته مطلوبٌ للإعفاء من حضور الدورات الشرعية، أو لنقل أثاث المنزل، أو لاستجرار الكهرباء والماء، وغيرها.
وقد همست أصواتٌ في الماضي القريب عن مبالغ كبيرةٍ، أو أسلحةٍ خفيفةٍ، قدّموها لشخصياتٍ في التنظيم مقابل تسهيلاتٍ معينةٍ، أو لغضّ النظر عن بعض المخالفات، أو للسكوت عن ممارساتٍ قديمةٍ يحاسب عليها التنظيم (كالاشتراك في الحرب ضدّه، أو جلب الدخان من الحسكة). أما اليوم فيتمّ الحديث، بأريحيةٍ أكبر، عن مبالغ بسيطةٍ لتسيير الأمور. فعلى سبيل المثال، يتطلب إخراج الطيور من المدينة -وهو أمرٌ ممنوعٌ- أن يدفع صاحبها عشرة آلاف ليرةٍ لأحد معارفه في التنظيم، ليتولى العنصر إخراجها إلى إحدى القرى القريبة، حيث يستلمها صاحبها.
الاعتراف بالهزيمة
درج عناصر التنظيم على تحميل الأهالي مسؤولية هزائمهم. وبحسب ادّعاء هؤلاء العناصر فإن ذنوب السكان هي السبب في تأخر النصر. الأمر الذي فسّر به أمنيو التنظيم بعض قراراته وممارساته الغريبة، كنفي بعض الشبان العازبين إلى خارج المدينة. لكن ذلك الرأي تراجع مؤخراً، لصالح تعبير خطباء التنظيم وشرعييه وقضاته عن نقيضه. فقد أكّد الكثيرون ممن حضروا دورةً شرعيةً حديثاً أن الشرعيين وصفوا تحميل الهزيمة للأهالي بالتشبيح، رابطين تأخر النصر بذنوب العناصر أنفسهم، فهم يكذبون ويسرقون ويحششون ويمارسون اللواط على الجبهات، عدا عن اتكاليتهم وعدم التزامهم بالأوامر التي تناولها الخطباء في المساجد. كما راح الكثير من القضاة والقادة يشجعون الأهالي على تقديم الشكاوى في حقّ عناصرهم عند أية ممارسةٍ مخالفة. الأمر الذي يبدو استراتيجيةً جديدةً يتبعها التنظيم، وقد ظهرت نتائجها الأولية في الحدّ من سلطات الأمنيين ومحاسبة بعض قياداتهم.
يقول أحد معارضي التنظيم: "إن الحدس الذي نظر به الأهالي إلى مسؤولي التنظيم هو حدسٌ تربّى لديهم من خبرتهم الطويلة بمسؤولي النظام". وما برح الأهالي يحدسون بشراكةٍ تجمع بعض الأمراء بتجّارٍ ظهروا فجأةً على الساحة، أو بعلاقةٍ بين المخابرات السورية ومؤسّسي التنظيم. فهل ستكشف الأيام صدق هذا الحدس؟!