- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
مندوبو إيران في مصياف تهديدٌ وجوديٌّ لمجتمعها
في الوسط غسان إسماعيل، شيخ الطائفة الإسماعيلية في مصياف
المشيخة الإسماعيلية عاجزة، وحملات التشيّع "الاثني عشريّ" على قدمٍ وساق
يبكي لنا الصفصاف/ فنحنُّ كالناقة
تابوتنا مصياف/ والقبر ورَّاقه
من الذاكرة التي تبحث عن إنشاءٍ حزينٍ يلائم أحوال المدن في سنوات الكآبة والضياع، تأتي قصيدة الراحل
ممدوح عدوان عن مصياف.
هادئةٌ حتى الآن رغم الحرب المستعرة في محيطها غير البعيد، لكنها حزينةٌ حزناً أعمق من أشرطة السواد المائلة في أعلى صور القتلى المنتشرة على جدرانها، وأعمق من البكائيات الطارئة مع موجة المؤمنين الجدد على طريقة متطرّفي "الوليّ الفقيه". هموم مصياف ثقيلة، يقول الرجال الأكثر فهماً لما يجري في المدينة، أثقل من تخاصم فردين، معارضٍ ومؤيدٍ للنظام من عائلةٍ واحدةٍ، كحال بيوتٍ كثيرةٍ في مصياف، ومن شكاوى ربة منزلٍ من الغلاء أمام دكان خضار. فـ"المذهب في خطر"، يلخّص مثقفٌ متوسط العمر ما ستحمله موجة التشيّع الهادئة والسريعة في آنٍ واحد، فهي تهدّد "بقاء الطائفة الإسماعيلية بوجهها المتسامح والمتنوّر الذي عرفت به"، وتلحقها بمشروعٍ هدّامٍ تستخدم "أطماع السياسة فيه الدين". إنه "مشروع إيران" التي أعادت تأهيل جيوب الشيعة في سوريا بما يوافق مصالحها، وقادت حملات تشيّعٍ جديدةً بين أبناء الطوائف الإسلامية، مستغلةً مخاوفهم التي فشل الخطاب العام للمعارضة السورية في تهدئتها. يقول رجلٌ كان حاضراً لشكاوى المثقف إنه: "يكفي توقف قدّام جامع الرسول الأعظم لحتى تعرف أنه مصياف اليوم غير مصياف امبارح". و"امبارح" هي عقود ما قبل الثورة، حين عُرفت المدينة بطبيعةٍ اجتماعيةٍ اتسمت بالتسامح ونبذ التعصب وإهمال الجوانب المثيرة للشقاق والفرقة من التاريخ. يقرأ الإسماعيليون الماضي على أنه تاريخٌ محضٌ، في حين "يقرأه الغلاة على أنه دين". وهنا الفرق. وهنا خوف المثقف وصديقه وكثرٌ من أبناء مصياف على مذهبهم، "لا تعصباً لمذهبٍ بعينه"، وإنما حفاظاً على هويةٍ تشكلت خلال حقبٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ وتحت تأثيراتٍ شتى، "لنكون الأكثر تسامحاً وهدوءاً وحباً للحياة، بعد أن كنا الأكثر تعصباً واستخفافاً بها". بدت جملة مضيفنا الحزين عن هوية بلدته فخورةً بعض الشيء، لكنها تنطوي على حقيقة.
المقاومة العقائدية
يرفض أحمد، وهو شابٌّ يعتني بلحيته السوداء، أن يرتشف من كأس البيرة المقدّم له على الطاولة التي اضطرّ إلى الجلوس إليها لشأنٍ من الشؤون مع قريبه الأكبر سناً الذي بدأ مناكفته بالسؤال عن سبب رفضه لشرب البيرة. يبتسم الشابّ ويجيب بجملةٍ واحدةٍ: "نحن ما بنشرب". مين أنتم؟ يستنكر القريب صيغة الجماعة في عبارة الشابّ الذي أجاب بدوره: "المقاومة العقائدية"، ناطقاً قاف الكلمتين ألفاً. ولا يقف التشبّه بصيغة الحزب اللبنانيّ عند حدود النطق، بل يتعدّاه إلى إلحاق لقب الموسويّ إلى الكنية الأصلية.
كان أحمد خريج معهدٍ متوسّطٍ يبحث عن عملٍ وقت اندلاع الثورة. وكان مهتماً، بحسب ما يقول قريبه، باقتناء الأفلام الأجنبية وتبادل الطرائف المصوّرة على الجوّال.
لكن حياته تغيّرت بعد إنشاء ما يسمّى بـ"المقاومة العقائدية" وافتتاح فرعٍ لها في مصياف، لتجتذب مئاتٍ آخرين من شبّان المدينة لم تكن قصص حياتهم تختلف عن قصة أحمد. يتداول المطلعون على شؤون هذه الميليشيا معلوماتٍ عن ارتباطها العضويّ بحزب الله، وعن محدودية تأثير أجهزة نظام الأسد، الرسمية منها والأمنية، على هذه الميليشيا التي تألفت من أبناء الطائفة الشيعية فحسب أو من المتشيّعين الجدد. وتبدي "المقاومة العقائدية" سلوكاً منضبطاً ومنظماً إلى حدٍّ كبيرٍ بالمقارنة مع الميليشيات الأخرى ذات الأجسام المحدّدة مثل الدفاع الوطنيّ، أو العشوائية مثل مجموعات الشبيحة المتفلتين من كلّ ضابط. يبدي بعض سكان مصياف تحفظاتٍ أقلّ نحو "المقاومة العقائدية"، إذ يسوقون جملة مبرراتٍ لمنتسبيها، منها رغبة كثيرٍ من الشبّان في الإفلات من الخدمة النظامية في جيش الأسد، وخاصّةً مع رواتب شهريةٍ مرتفعةٍ بالمقارنة مع رواتب مجنّدي ذلك الجيش. وكذلك رغبة بعض أبناء الطائفة الإسماعيلية في الانتماء إلى جسمٍ ذي بأسٍ ونفوذٍ مثل هذه الميليشيا التابعة لحزب الله، في وجه الممارسات الإجرامية للشبّيحة المتحدّرين من ريف مصياف القريب. وتؤكّد الأرقام المنقولة عن بعض منتسبي هذه الجماعة أن عدد أفرادها تجاوز 400 في مدينة مصياف لوحدها، إضافةً إلى آخرين اكتفوا بالإيمان بأفكار هذه الجماعة دون الانتساب إليها.
من تبليط الأرضيات إلى المنبر
ربما كان الشيخ الشابّ غسان إسماعيل، شيخ الطائفة الإسماعيلية في مصياف، وقبله سلفه الراحل الشيخ منصور، الرجل المعمّم الوحيد في المدينة. إلا أن بروز شيخٍ آخر هو عمار الهيبة، قائد حملات التشيّع في مصياف، جعل فيها أكثر من عمامةٍ وأكثر من رداءٍ مشيخيّ. قبل ثماني سنواتٍ كان الهيبة "جلّاء" بلاطٍ نشطاً، ينتقل بورشته من بناءٍ إلى آخر. لم يكمل الرجل تعليمه الثانويّ لكنه أتقن مهنة عائلته بسرعةٍ ومهارةٍ أهلته للفوز بمقاولةٍ صغيرةٍ لإنجاز أعمال البلاط والأرضيات في جامع الرسول الأعظم الذي كان قيد الإنشاء بتمويلٍ إيرانيٍّ. لم يفوّت الهيبة الفرصة، بحسب ما يقول مطّلعون على سيرته، اذ أدرك أن استثماراً بكراً مثل العمل الدينيّ مع مندوبي إيران مقاولةٌ ناجحة، وخاصّةً مع قلة المنافسين في مدينةٍ لا يعدّ التديّن من أولويات سكانها بشكلٍ عامّ. لينتقل الهيبة، وبعد تأهيلٍ سريعٍ، من جلي بلاط الجامع إلى الوقوف على منبره خطيباً اثني عشرياً. ثم ليغدو رجل إيران الأوّل في مصياف وعددٍ من البلدات والقرى التابعة لها.
يميّز المهتمون بتاريخ التشيع الاثني عشريّ في مصياف ثلاث محطّاتٍ هامةً في ذلك التاريخ؛ الأولى بعد وراثة بشار الأسد للسلطة خلفاً لأبيه عام 2000، وما تلا ذلك من نموٍّ متزايدٍ في النشاط الدينيّ لإيران في سوريا. والثانية بعد حرب حزب الله مع إسرائيل في عام 2006، حين لمع نجم حسن نصر الله أمين عام هذا الحزب. مع التركيز على أثر المواجهات الطائفية لإسماعيليّي مصياف مع بعض علويّي القرى المجاورة، عام 2005، حين هاجم مئات الشبّان الريفيين الغاضبين المدينة، إثر شجارٍ بين سائقي حافلاتٍ، وأحرقوا بعض ممتلكات السكان فيها، قبل أن تتدخل أجهزة الأمن لتسوية القضية. كانت تسوية المخابرات قسريةً وسطحيةً لم تعالج –يصعب أن تعالج- الأسباب الأساسية لهذه المواجهات. مما خلّف مشاعر إذلالٍ وهدر كرامةٍ جمعيةٍ، تعافت جزئياً بصعود نجم حزب الله (الشيعة الأصليين) في حرب حزيران في السنة اللاحقة، ليكون النصر المزعوم للحزب الخمينيّ مفخرةً إسماعيليةً على خصومهم القريبين –الإسماعيليون جزءٌ معترفٌ به من الشيعة، بخلاف العلويين- في مناخٍ تنافسيٍّ غير ودود. ولتنطلق، في ظلّ الإعجاب الكبير بحزب إيران اللبنانيّ، موجة التشيع الثانية، وهي الأهمّ من ناحية التغلغل البطيء والمدروس في بنية المجتمع المصيافيّ. لم يصدر عن المرجعية الإسماعيلية المحلية، ممثلةً بالشيخ غسان إسماعيل، موقفٌ إزاء ظاهرة التشيع الاثني عشريّ المتنامية في مجتمع رعيته. وقلّص من الحاجة إلى موقفٍ حرصُ المؤمنين الجدد على عدم إثارة الانتباه في سلوكهم العام؛ فلم يتهم منتقلٌ إلى المذهب الجديد عائلته أو أصدقاءه بالضلالة، ولم تحاول محجبةٌ محدثةٌ مطالبة شقيقاتها أو صديقاتها المتحرّرات أن يكنّ أكثر حشمةً في لباسهنّ. مما جعل حملة التشيّع، في انطلاقتها الثانية في تلك السنوات، تبدو هادئةً وغير خطرةٍ، في جوٍّ دينيٍّ أوسع كان المفتي أحمد حسّون وعضو مجلس الشعب السابق محمد حبش يسخّفان فيه التباينات العميقة بين الطوائف الإسلامية، إلى الدرجة التي بدت فيها مجرّد مناكفات أشقاء.
بالعــــودة إلى المثـــقف الـــــحزين وأصدقائه المتذمّرين مما حدث ويحدث في هذا السياق، يحاول الرجل، وهو يتحدّث عن تاريخ المدينة الحديث، أن يميّز طبقاتٍ غير متمايزةٍ بالفعل في مجتمعها. فيلاحظ –بشكلٍ صائبٍ- أن العائلات المتحدّرة من جذور الأمراء الدينيين والسياسيين التاريخيين للطائفة هي الأكثر تحصيناً في وجه "الغزو الاثني العشريّ" لمصياف، إذ لم يتحول من أبناء "الأمّار" أحدٌ، كما يؤكد المثقف وصديقه المراقب لأنشطة جامع الرسول الأعظم. وأخيراً، يبدي كلاهما لوم محبٍّ لإمام أشقائهم من إسماعيليّي سلمية، الذي يترفع عن فعل شيءٍ عمليٍّ، تاركاً فرع الطائفة غير التابع له في مصياف يواجه خبث المشروع الإيرانيّ وحيداً.