للفنان عبد الرحيم سالم
بعد اعتقاله في سجون النظام، ثم في سجون تنظيم "داعش"، يحاول معلم المدرسة (أ) أن يتفرّغ فقط لتأمين طعام لأولاده كما يقول، متذكراً أحياناً انخراطه الحماسيّ في مجريات الثورة، ومقيماً دائماً في حالةٍ من اليأس.
في عزّ نشاطه، وفي ذروة آماله وثقته بالثوّار، وأثناء انشغاله بتأمين منشقين عن الجيش الأسديّ، ثم رعايتهم ونقلهم إلى الأجزاء المحرّرة لينضموا إلى أحد فصائل الجيش الحرّ الشهيرة والمحبوبة، كما يقول؛ تلقى صدمته الأولى باكتشافه لحقيقة قائد هذا التشكيل. "كان صديقي. ومرّة كنت طالع معاه بالسيارة ووقّف هو يشتري غرض. ولما فتحتو التابلوه أدوّر على قداحة لقيتو شي آخر". يصمت (أ) للحظاتٍ يؤكد خلالها أنه شخصٌ ساذج، فقد عثر على ورقة تكليفٍ من المحافظ لصديقه قائد الكتيبة بتشكيل لجنةٍ شعبيةٍ، وترخيصٍ بحمل السلاح وتسهيل الحصول على الذخيرة. "انصدمتو فعلاً. مستحيل، ما صدقتو عيوني. ما فاتحتوه لكني حكيتو لواحد آخر من المقرّبين له. وبعد فترة، لما مريتو على حاجز من حواجز النظام، مثل ما كنتو أعمل من قبل وأعدّي منهم بدون ما يشكّون بي؛ صاح العسكري: ليكو (أ) سيدي، إجا لحاله".
"أنا ساذجٌ فعلاً"، هكذا يسجّل (أ) صدمته الثانية. ليقضي ثلاثة أشهرٍ في سجن المخابرات العسكرية في دير الزور، ثم ينال حريته فجأةً أثناء نقله إلى دمشق، عندما هاجم الجيش الحرّ رتل قوّات الأسد الذي ينقل المعتقلين. ويعرض عليه محرّروه أن يعمل معهم فيوافق، وينتقل إلى مقرّاتهم في مدينة العشارة ويبقى هناك إلى أن سيطرت داعش على المحافظة.
في سجن المخابرات العسكرية طبّق (أ)، بحسب ما يقول، قاعدة "اعترف بكل شي، الإنكار ما ينفع". فاعترف أنه ينتمي إلى الجيش الحرّ، وبأنه قتل العديد من جنود الأسد. لكن التعذيب لم يتوقف، إذ طلب المحقق منه أن يعترف بأنه يقاتل مع القاعدة، ففعل. وفي سجن داعش بمدينة معدان سأله المحقق: "مرتد أم مفسد في الأرض؟". لم يفهم (أ) السؤال جيداً فاعترف مرّةً أخرى بأنه من الجيش الحرّ، ليقع تحت جولة تعذيبٍ جديدةٍ صاح المحقق الغاضب خلالها: "مفسد في الأرض.. مفسد في الأرض".
يحلو لـ(أ) أنّ يتلمّس أوجه التشابه والاختلاف في أسلوبي تعذيب داعش والنظام: "الدواعش يضربون بهبال وبدون تركيز. ويهجمون كلهم بنفس الوقت عالمعتقل، مثل عساكر الجيش العاديين لما يدكّون واحد على حواجزهم". أما عناصر المخابرات فلهم باعٌ طويلٌ مع فنون التعذيب وأصوله: "يركّزون بالضرب بعد ما يشبحون الواحد ويعلقونه بالسقف. يصعقون بالكهربا ويستعملون الكماشة. ويتركون الواحد مرّات أسبوع كامل بدون ما يحكون معاه". ويلاحظ (أ) أن جلادي النظام يمكن أن يتحادثوا بين بعضهم أحياناً في حفلات التعذيب: "مثل أي مهنة، مثل الحلاق يسولف وهو يشتغل أو ست البيت تحكي بالتلفون وهي تطبخ، الجلادين مرّات يفتحون مواضيع بين بعض. مرّة تراهنو على سعر موبايل، ومرّة واحد سأل الثاني شكون رأيك بالحب". ويلاحظ (أ): "أكل الدواعش أحسن، همّ يحبون بطونهم ويطعمون المساجين من بقايا أكلهم. وبالفرع كنا ما ناكل أيام، لدرجة لما يطلعونا برّى ويرشون علينا ميّ وملح تا يقتلون القمل نصير نلحس جلودنا عشان نعوّض نقص الملح".
لكن، يحدّد (أ) نقطة التشابه الأبرز بين الطرفين، وهي حرص كليهما على إذلال المعتقل. فكما حُشر مع عشرات المعتقلين في زنزانةٍ للمخابرات العسكرية لا تتسع لأكثر من شخصين، حُشر مع خمسة معتقلين لدى داعش في مرحاض.
ويختم (أ) التقاطاته المؤلمة من ذاكرته القريبة والبعيدة خلال الثورة، بيوم فجّرت قوّات الأسد الجسر اليوغسلافيّ الواصل بين ضفتي نهر الفرات مؤخراً، وكيف أحسّ بخوفٍ كبيرٍ على مصير عائلته من اقتحام الجيش الأسديّ للمدينة: "نزلتو عالشوارع أسأل عن الأخبار. كانت سيارة لداعش تدور وتطمّن الناس أنه ما يخافون. ولما قرّبت السيارة مني صيّحتو: باقية باقية"!